عليها الأمصال لم يجئه إلا بصور من نتاج الخيال لم تقنع أحداً، وهي على كل حال لم تفد شيئاً في سبيل تقوية أمصال ضعيف أثرها في العلاج، خاب إرليش فما الذي هو صانعه بعد هذا؟ وفكر وخطط، ثم اتصل ببعض من عرف من رجال ذوي جاه وسلطان، فمالقهم وداهنهم وسلب ما أراد من عقولهم، وإذا بك تجد خادمه الأمين الثمين، السيد المحترم قدريت، قضَّاء الحاجات من كل ما هب ودبَّ، إذا بك تجده قائماً في معمل سيده في استجليتس يحل أجهزته للرحيل عن برلين ومدارسها الطبية وجلبتها العلمية إلى مدينة فرنكفورت على نهر المين. وتسألني ما الذي جذبه إلى هذه المدينة؟ إن الذي جذبه إليها أن بقربها تلك المصانع الشهيرة التي يخرج فيها أعلام الكيمياء تلك الأصباغ الجميلة الشتيتة العديدة عدا لا يناله الحصر، الجميلة جمالاً لا يؤديه الوصف، فكأنها باقات الزهر ازدهاراً وابتساما. وجذبه إليها أن بها أغنياء من اليهود عُرِف عنهم حب المجتمع وسهولة بذل الذهب في خيره. والذهب والذكاء والحظ والصبر أمور أربعة يراها إرليش لازمة لنجاحه فيما قصد إليه. وإذن جاء إرليش إلى فرنكفورت، أو على حد قول السيد المعظم المحترم النافع قدريت:(جئنا إلى فرنكفورت): ويعلم الله ما عانى قدريت في نقل تلك الأصباغ والمجلات الكيماوية المتناثرة بما فيها من هوامش كتبها إرليش وما بصفحاتها من طيات كان يطويها عليها ليرجع بها إليها
أظنك أيها القارئ تخرج من قراءة قصة المكروب هذه على أن صيادة الميكروب القويمة لا يصلح لها إلا نوع واحد من البُحَّاث، باحثٌ يعتمد على نفسه وحدها كل الاعتماد، باحث لا يلقى بالا إلى ما يجده غيره من البُحَّاث، رجل يقرأ الطبيعة ويعاف الكتب. إذن فاعلم أن إرليش لم يكن هذا الرجل، فإنه قل أن نظر في الطبيعة إلا أن تكون ضفدعته المختارة التي حفظها في جنينته فأعانته باختلاف مناشطها على التنبؤ بالجو ما سيكون - وهذه الضفدعة تولى أمرها السيد قدريت. فكان أول واجباته أن يأتيها بكثير من الذباب. . . . . لا، لم يكن إرليش يقرأ الطبيعة بل يقرأ الكتب ومن هذه جاء بكل أفكاره
عاش بين الكتب العلمية، واشترك في كل مجلة كيماوية تخرج في لغة يقرؤها، وفي مجلات أخرى تخرج في عدة لغات لم يكن يقرأها. وتبعثرت الكتب في معمله وانتشرت، فكان يجيئه الزائرون فيقول لهم:(تفضلوا فاجلسوا) فإذا نظروا حولهم لم يجدوا موضعاً