للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صار في عام ١٨٩٦ مديراً لمعمل استقل به وحده؛ وكان اسمه المعهد البروسي الملكي لامتحان الأمصال ومكانه في استجلتس بالقرب من برلين؛ واحتوى على حجرتين صغيرتين كانت إحداهما مخبزاً وكانت الأخرى اصطبلا. قال إرليش: (إننا نخيب لأننا لا نتوخى الدقة في أعمالنا)، يشير بذلك إلى خيبة بستور الصغرى في ألقحته، وخيبة بارنج الكبرى في أمصاله. وألح يقول: لابد من وجود قوانين رياضية تجري على سننها هذه الأمصال وهذه السموم وأضدادها). وظل هذا الرجل يضطرب مع خياله غادياً رائحاً في هاتين الحجرتين المظلمتين مدخناً مفسراً مجادلاً معاتباً مدققاً في القياس ما أمكنته الدقة، بين قطرات من أحسية مسمومة وأنابيب مدرجة مقدرة من أمصال شافية

نعم لابد من قوانين! ويقوم على تجربة يؤديها. ويخرج من التجربة على نتيجة باهرة، فيقول: (أتعلمون لم كانت هذه النتيجة هكذا؟) وإذا به يخطط صورة غريبة للسم تخبر عن مظهره كيف يكون، وإذا به يخطط صورة أخرى لخلية الجسم تنبئ عن مظهرها الكيماوي كيف يجب أن يكون. ويستمر يعمل، وتستمر ألوف الخنازير الغينية تسير إلى موتها صفاً صفاً ويجد أن ما يختلف مع نظريته البسيطة من النتائج أكثر مما يأتلف بها، فلا تروعه هذه الاستثناءات لقاعدته، ويَدِرْ عليه خياله الخصب فيخترع قواعد أخرى تتولى أمر هذه الاستثناءات. ويخطط في سبيل الشرح صوراً أغرب وأعجب. إلى أن وصل إلى أن وصل إلى نظريته الشهيرة عن الحصانة المعروفة بنظرية السلسلة الجانبية فصارت أحجيةٌ مغلقة لا تكاد تفسر شيئاً ولا تَقدر على التنبؤ بشيء. وظل إلى آخر أنفاسه يعتقد بصدق هذه النظرية السخيفة. ودقها النقّادون دقا من كل جانب وفي كل بقعة من بقاع الأرض، وظل متشبثاً بها. وإذا أعوزته التجربة في الرد على منتقديه وإفحامهم بالحجة لجأ إلى المكابرة والمماحكة، وكان يدفع عن نظريته في المؤتمرات الطبية فينهزم فيها فيخرج منها يسب خصومه علانية وهو في طريقه إلى البيت، وفي الترام يرفع عقيرته بالسباب وهو فرح منبسط، فيغصب الكمساري فيعيد السباب تكراراً يتحداه به أن ينزله من الترام إذا هو استطاع

ولما جاءت سنة ١٨٩٩ كان إرليش بلغ عامه الخامس والأربعين. فلو أنه مات عندئذ لأدخله التاريخ في زمرة الخائبين. فكل المجهود الذي بذله في البحث عن قوانين تجري

<<  <  ج:
ص:  >  >>