الأطفال، وأقفرت المكاتب من الصِّبية. وكان شوقي إلى بعضهم يدفعني إلى أن أزورهم خلسة، فأجد فيهم من يكابد هول الداء وحده، فلا أبوه يخفف عن كبده سعار العطش، ولا أمه تسمح عن ثوبه رجْع القيء! لقد شغل كل إنسان بنفسه عن غيره، ولها كل بيت بكبيره عن صغيره.
ولكن (زهرة) اليتيمة زينة الصبايا وبهجة الحارة كانت في السواد من قلب أختها، وفي السواد من عين أخيها. مرَّضتها الأخت حتى أخذتها سكرة الداء، ومرَّضها الأخ حتى غشيته غمرة الموت. وبقيت (زهرة) الجميلة وحدها تنتظر النهاية المحتومة في حجرتها الموحشة على حصيرتها الخشنة. وكانت عمتها العجوز تزورها الحين بعد الحين لترمقها من بعيد ثم تنصرف. وكنت أكنُّ لهذه الفتاة نوعاً من الحب المبهم يختلط فيه الإعجاب والحنان والعطف. وكان بيتنا يشرب الماء مغلي فلم يصب أحد منا بسوء، فظننت أن الدواء في هذا الماء، فحملت منه قلة ثم دخلت بها عليها.
فلما رأتني افترت شفتاها الذابلتان عن ابتسامتها الحلوة. وأشارت بطرفها إلى الماء فجرَّعتها منه جرعة. ثم جلست بجانبها أرنو إلى العينين الغائرتين وقد كانتا كعيني الرشأ، وإلى الوجنتين الشاحبتين وقد كانتا في حمرة الورد، وإلى الجسد الضارع المشفوف وقد كان في غضاضة السوسن. ثم وضعتُ القلة مرة أخرى على فمها الجاف فرشفت منها رشفة، ولكن الماء وقف في حلقها فلم تستطع أن تسيغه. ثم شخص بصرها، وحشرج صدرها، وأخذها فواق ضعيف، ثم لفها سكون شامل!
لا أزال أذكر هذا المنظر المروع وأتمثله كأنه وقع أمس! ولا أزال أذكر أن تياراً من الرعب قد اعتراني، فعقل يدي وعقد لساني، فخرجت من الحجرة هارباً بنفسي لا ألوي على شيء، ولا أخبر أحداً بشيء!
وا حسرتا على قريتي الصغيرة الفقيرة! لقد جثم على صدرها الموت المائت حتى ختم على أكثر الدور، ونقل نصف أهليها من الدور إلى القبور!
كانت حالنا يومئذ غير حالنا اليوم؛ فلم يكن هناك مصل يفي، ولا علاج يشفي، ولا حكومة تطارد الوباء وتحصره، ولا أمة تتبع النظام الصحي وتنشره.