للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وصمت، ولجاجة وحرص، وقوة وحذر، ومعرفة وبصر، حتى بلغ العدو منا مبلغا لم يكن في أول الأمر يظن أنه يبلغه. فقد تهاوى البناء كله فجأة. وأصبحت الحياة الإسلامية أطلالا يناديها الفناء فتجيب بلا مقاومة ولا عناد

ذهب كل شيء يكون للحياة البشرية قواماً وعماداً: ذهب العلم والأدب والأخلاق واللغة والتاريخ، وجاءه الغزاة بما يحل مكانه من علم وأدب وأخلاق ولغة وتاريخ. ذهب الذي كان ينبع نبعه من كتاب الله، ومن حياة الأمة المسلمة، وسنة رسوله، وجاء الذي ينبع نبعه من الحياة الوثنية القديمة، ومن المسيحية المحدثة. ذهب الذي كان يتحدر إلينا، وجاء الذي يتحدر غلينا كما يتحدر السيل الجارف لا يبقي ولا يذر. ذهب شيء وجاء شيء، فتغير نظرنا وفكرنا، وتغير إدراكنا ومعرفتنا، وتغير شعورنا وإحساسنا، وتغير لساننا وبياننا. فعدنا ننظر في الكتاب الذي هو كتابنا، وأخبار النبي الذي هو نبينا، وآثار الماضين الذين هم آباؤنا. فأنكرنا ما وجدنا في ذلك كله، فطرحه منا من طرحه وراء ظهره ولم يبال به، وتهيب منا من تهيب فوقف لا يدري ماذا يفعل، وبقيت طائفة لا تطرح ولا تتهيب، فطلبت مخرجاً من هذا الشيء الذي تنكره إنكاراً خفيفاً، وهو في هذه الصورة التي جاء عليها من التراث الماضي. فرأت المخرج في تجديد التراث الماضي تجديداً مقارباً، يطابق الحياة الجديدة من وجوه، وينكر الحياة القديمة من وجوه أخرى.

ومن يومئذ انقسم العالم العربي والإسلامي إلى طائفتين: طائفة منكرة لا تعبأ شيئاً بالحياة الماضية كلها، وطائفة لم يبلغ بها الإنكار أن لا تعبأ، فالتمست تجديد الحياة الماضية على أسس جديدة. وإذا هذه الأسس التي تريد أن تؤسس عليها، هي في جوهرها مستمدة كلها من الحياة التي أنشأها الغازي الصليبي بين ظهرانينا.

هذه صورة مصغرة للحياة في العالم الإسلامي الحاضر. لا يدركها المرء حتى يعلم أن العالم الإسلامي مقبل على خطر أبشع من خطر الغزو الصليبي الأول بالسلاح، مقبل على هزيمة منكرة تكون عاقبتها تبديل الإسلام تبديلاً كاملاً حتى لا يبقى له من ظل لحق إلا ما بقي من ظل المسيحية الحقة في العالم المسيحي الحاضر.

ودعاة هذا التبديل، علموا أو لم يعلموا، قد تعاووا في كل مكان باسم الدفاع عن الإسلام، وباسم إحياء الإسلام، وباسم تجديد الإسلام. وهم يعملون جاهدين على أن ينشروا دينهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>