استطاع (كامل الخلعي) أن يفهم الدنيا فهماً صحيحاً في دقة وإمعان، واستطاع أن يستوعب المجتمع ويتفهم نواحي التقارب والتباعد من حياة الأفراد في بيئاتهم المختلفة، وأن يندمج في الجماعات اندماجاً كاملاً. ومع ذلك لم تستأثر به بيئة دون أخرى، لأن العقلية الشاذة التي تهيأت لهذا الفنان العبقري كفلت له أن يهتضم البيئات دون أن تجتذبه إلى صميمها واحدة منها، ولهذا كان له عديد من الشخصيات التي لو وجد صاحبها في غير مصر لانصرف لدراستها علماء النفس والفلاسفة
إذا أثيرت في مجلس ذكرى (كامل الخلعي) انطلق المتحدثون في تناول ذكراه بشتى أنواع الحديث وليس فيهم من يضع إصبعه على نقطة الصواب من أحاديث المجلس. . . وأغلب ما يجتمع عنده حديثهم أن الرجل كان مخبول العقل! وهي كلمة طالما ترامت إلى سمع (كامل) وهو حي يرزق، فكان يبتسم لها في اطمئنان غير مبال بما يذهب إليه الناس في شأنه من مذاهب. ذلك لأنهم ما كانوا يجدون لأنفسهم مخرجاً من التفكير في عقلية (كامل الخلعي) إلا أنه مخبول ذلك الذي يطوف الحارات والأزقة باحثاً عن الكلاب الضالة والقطط المشردة ليدفع إليها من الطعام ما يباعد بينها وبين الجوع
استقبل كامل الدنيا طفلاً لعوباً كما يستقبلها أترابه من أبناء الذوات والمترفين. ولكنه لم يلبث أن اصطدم بأول حادث هز عواطفه البكر في مستهل حياته. لم يكن قد تجاوز الخامسة حين بدت نذر الثورة العرابية، وكان والده يومئذ من ضباط الجيش المقيمين بالإسكندرية. ففي ساعة واحدة صدرت الأوامر بتأهب الجيش، ولم يجد الضابط الباسل فرصة لتوديع ولده الطفل واكتفى بأن بعث إلى منزله (بكوم الشقافة) من نقل زوجه وطفلها الصبي سريعاً إلى دمنهور مستقر العائلة. والطفل المبكر في نموه العقلي يستطيع أن يحس هذا الموقف كما أحسه (كامل) إذ أدرك أن والده الضابط قد لا يعود إليه لأن القتال قد بلغ حماسته بين المصريين والإنجليز. ولم يشك كامل في أن والده قد لقي مصرعه في خط النار عند كفر الدوار، ولكن مفاجأة أخرى اصطدمت بها أعصابه الغضة بعد انتقال ميدان القتال إلى التل الكبير وبعد عام كامل فإذا بالضابط يعود إلى أسرته حياً بعد أن أدى في سبيل الوطن واجبه، وأن انتهت الحرب على غير ما يبغي الأحرار
وبالرغم من أن (كاملاً) قد استعاد الحياة في كنف والده بعد يأس من لقائه، إلا أن الحادث لم