يغادر ذاكرته ولم يزايل الأثر أعصابه، بل بقيت ذكرى هذا الألم متغلغلة في نفسه وصدره فحولته إلى مخلوق كثير الدموع دقيق الإحساس رقيق الشعور بكل ما يحيط به من ألم وسرور، يبكي لبكاء الباكين ويفرح لسرور الفرحين
وفي القاهرة بدأت المرحلة الأولى لشخصية (كامل) إذ كانت المدرسة أول تجربة أظهرت النزوع المرتكز في عقليته، وهو عصيانه لكل نظام يحد من الحرية وإن أوجبت هذا النظام طبيعة الوجود. وقد جنت هذه النزعة على (كامل) في حياته ومستقبله إذ قطعت عليه طريق الدراسة التي يلتمس من ورائها المستقبل المادي في الحياة، فما انتهى من دراسته الابتدائية حتى تمرد على هذا النوع من التعليم المحدود في نطاق البرامج
وصادفته صدمة أخرى أكرهته على التشرد بعيداً عن حضانة الوالدين، إذ تفرق ما بين هذين الوالدين من رباط. فانطلق كامل يضرب في الأرض أفاقاً يلتمس الحرية والتعزي عن فجيعته في حضانة والديه. وعبثاً حاول والده أن يخضعه لطاعته التماساً لدفعه إلى المدرسة يستكمل دراسته. واستقر الفتى بعد ذلك على اختلاس التردد على مكتبة والده في ساعات متقطعة استطاع من ثناياها في مدى عامين أن يقرأ كتاب (العقد الفريد والأغاني) وتاريخ ابن الأثير والجبرتي وطائفة من دواوين شعراء العرب؛ وهو لما يجاوز الخامسة عشرة.
في هذه الفترة كان (كامل الخلعي) يتهيأ لأن يستمع إليه الخاصة مطرباً يحيي موات النفوس ويراه الناس خطاطاً ورساماً قد دق إحساسه بروح الفن. وهو في هذا المجال من الصبا ينطلق بين الجماعات المختلفة: فتارة نراه في مجلس العلماء وأعلام الأدب من طراز (السيد توفيق البكري) نقيب الأشراف يومئذ وقد اصطنع (كاملاً) لنفسه، أميناً لمكتبته؛ وتارة تراه يدارس أساتذة الموسيقى في عصره ويستلهمهم أسرار الفن وأصوله وقواعده
وفي هذا السياق من التخبط في الحياة، انتقل والده إلى ربه بعد أن ضعف بصره ووهنت قواه. فلم يتريث (كامل) في طريقه بل واصل حياته مستهيناً بكل ما اعترضه في جهاده؛ واستطاع بعقله الخصب أن يصل إلى قمة الشهرة عن جدارة، فكان الأديب واللغوي والفقيه والشاعر والخطاط والرسام بل الموسيقي الذي استهوى القلوب، وتزاحم الأعيان وخاصة