الملاريا والأنفلونزا على خمود الحياة وشل الحركة. لقد كنا لا نرى الموت إلا حيث تكون الشيخوخة الفانية، ولا نسمع بالمرض إلا قُبيل الموت المرغوب، ولا نعرف من الأطباء إلا طبيب المركز يوم يزور القرية كل أربع سنوات، فيأمر بتسوية التلال، وكنس الأزقة، ورش الحيطان الخارجية بالجص؛ وكانت النفوس راضية مطمئنة تسبح في فيض من نعيم السلام والدعة، لا يُرمضها حقد على إنسان، ولا يقلقها حرص على شيء؛ وكان الناس لا يعلمون عن أوزار الحرب إلا ما يتسقطون من أنبائها الحين بعد الحين بين العثمانيين والمسكوف؛ وكانت السلامة أدوم، والأعمار أطول، والأرزاق أيسر، ورحمة الله أقرب، وأمة الرسول بخير
أما اليوم فكأنما أصاب الناس سُعار من الجحيم فلا يبرحون بين عمل دائب، وهم ناصب، وطمع شره، وتنافس دنيء، وعداوة راصدة. ثم فشا الطب ففشا المرض، وانتشر العلم فانتشرت الجريمة، وفاض الخير وغاضت البركة، واستبحرت المدنية المادية فخَفَت بين ضجيجها الآلي صوت الضمير، وهلك في عبابها المزبد سلام النفس. وكان الظن بالمدنية والعلم أن ينزعا من نفوس بني الإنسان غرائز الحيوان، ويهيئا لهم حياة الجنة التي حرمتهم إياها رذيلة الطمع. فهل رُفع الإيمان من الأرض حتى عم الناس هذا البلاء، وأصاب العلماء منه ما أصاب الجهلاء؟
فقلت له يا شيخنا! كان عدد الناس في صدر أيامك قليلاً، وخير الله بالنسبة إليهم كثيراً؛ فكانت الحياة وادعة، والنفوس قانعة، والجوارح عَفّة والجوانح سليمة. وبراءة الصدور من الحسد تصل قطيعة القلوب بالألفة، وترفه لغوب العيش بالمعونة؛ وخلو البال من الهم يدفع المرض عن الجسم، ويصد الرذيلة عن الروح. فلما جاءت المدنية الكاذبة وفرت وسائل الصحة، ومدت أسباب الأمن، فزاد النسل أضعافاً مضاعفة، وكثرت الحاجات كثرة فاحشة، فتزاحم الناس على موارد الرزق، وتكالبوا على مواد العيش؛ ثم أيأستهم هذه المدنية من عزاء الدين، وشككتهم في ثواب الله، وأرابتهم في غَناء الخُلق، فعادوا في حضارتهم الزاخرة بعجائب العلم كأوابد الوحش، لا يقودهم إلا غريزة الحي، ولا يحكمهم إلا قانون الحياة. والله وحده يعلم كيف المصير