للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والإيثارَ وسعة العقل وقلة المبالاة في كبير الأمر وصغيره، وكذلك الشيخ. فإذا الآتي متمَلَّك سالب، وإذا الماضي مفارق سليب.

فهذا هو تاريخ الصراع بين أجيال الناس كلهم، والأمم جميعها، والآراء بأسرها، والمذاهب برُمَتها؛ إلى آخر هذا الحشد مما يقع عليه الخلاف في هذه الحياة الدنيا، وليس يكون فيها شيء إلا كان مظنّة للخلاف. وهذا الصراع المُفنى هو نفسه سرْ القوة المحْيية، وهذا الجهاد المتواصل في طلب الغلبة والظهور، والنصر بين السالب والمسلوب، هو الحياة. وهذا العناء الشديد الذي يلقاه الشباب حين يحتدم الصدام بينهم وبين أهل السنِّ من قدماء الأحياء هو تكملة الإنسان الجديد الذي يريد أن يتملك مواطئ أقدام الإنسان القديم الذي كتب عليه أن يرحل ويُفسح الطريق لمن هو أولى منه بالعيش وعليه أقدر.

وقديماً قال القائل:

لكلّ جديد لَذَّةٌ، غيرَ أنني ... وجدت جديدَ الموت غير لذيذ

فيأتي الآتي إلى جديد الحياة، فإذا هو بها مشغوف لهيفٌ، وإذا هو نفسه جديد، فهو معجب بجديد نفسه ساخرٌ من قديم غيره؛ وإذا سرُّ كل (آت) هو جدته الموفورة، وسرُّ الضعف في كل (ماض) هو جدّته البالية. وللجديد نخوة ونشوة وإرباء على القديم، وفي القديم هيبة وذهول وتقصير عن الجديد، والصراع بين القديم والجديد هو صراع على الحياة وعلى البقاء وعلى الخلود، ولذلك لم يخلُ وجه الأرض قط منِ نزَال دامِ مفزع بشِع بين هذين الجبارين: الجبار الآتي الذي يريد أن يستأثر بالحياة، والجبار الراحل الذي يلتمس لجبروته الخلود: ولا تزال الدنيا دنيا ما اصطرع هذان الجباران، فإذا سكن ما بينهما فقد انطفأت يومئذ جمرة الحياة، ولم يبق إلا رمادها.

ونحن اليوم أحوج ما كنا إلى حدّة الصراع بين الجبارين: جبار الشباب وجبار الهرم، لأن الحياة التي حولنا تريدنا على ذلك، إذا أغفلنا مطالب الحياة الإنسانية نفسها، والتي لا بقاء لها إلا مكاره النزاع والنزال والمصاولة. ولكن يخّيل إلى أن جبارنا هذا الشابَّ لم يعرف بعْدُ أن اتخاذ الأهبة للقتال شيء لا غنى عنه لمن يريد أن تكون له العزة والغَلبة، وأنه ينازل جباراً سبقه إلى الدنيا فعرفها وخبرها واستعدَّ لها، وصرف همه إلى درسها وتمحيصها، وأنه قد بذل في إبان شبابه من جُهد التحصيل والاستعداد، ما غفَل هو عن مثله

<<  <  ج:
ص:  >  >>