قواميس عربية يونانية وأخرى عربية لاتينية قد ألفها العرب للعرب. ثم أقبل الناس في الشرق والغرب على هذه العلوم يعالجونها بالشرح والتحليل حتى اجتازوا سراعاً دور التلمذة والتقليد إلى دور الابتكار والتجديد، فهبوا ينشئون المدارس ويقيمون المراصد ويمحصون المسائل ويؤلفون الرسائل ويؤسسون المكاتب، وقد جروا في ذلك إلى أبعد الغايات. ذكر (بنيامين دتودليه) أنه رأى في الاسكندرية عام ١١٧٣م عشرين مدرسة، فما ظنكم ببغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وأشبيلية وطليطلة وغرناطة وقد كان فيهن عدا العدد الوفر من مدارس الثقافة العامة جامعات للثقافة الخاصة وما يتبعها من وسائل البحث كالمعامل والمراصد والمكاتب؟ وأنكم لتكبرون ما بذله العرب من الجهود الجبارة في سبيل المدنية والعلم إذا قستموه بما خلفوه من البحوث وما ألفوه من الكتب. فقد تناولوا أصول المعارف الإنسانية بالتقصي الدقيق والغوص العميق حتى فرعوها إلى ثلاثمائة علم أحصاها طاشكبرى زاده في كتابه مفتاح السعادة. ثم استنزفوا الأيام في معاناة التأليف على صعوبة النسخ وكثرة المؤونة وقلة الجدوى، فتركوا للعالم ذلك التراث الضخم الذي اشتملت عليه مكاتبهم في الشرق والغرب. فقد ذكر (جيبون) في كتابه عن الدولة الرومانية أنه كان في طرابلس على عهد الفاطميين مكتبة تحوي ثلاثة ملايين مجلد أحرقها الفرنج سنة ٥٠٢هـ، وقال المقريزي انه كان في خزانة العزيز بالله الفاطمي مليون وستمائة ألف مجلد نزل بها ما نزل بمصر من الأحداث فأغرقت في النيل أو ألقيت في الصحراء تسفى عليها الريح حتى صارت تلالاً عرفت بتلال الكتب! وروى المقري انه كان بخزانة الحكم الثاني بقرطبة أربعمائة ألف مجلد فيها أربعة وأربعون للفهرس، وأبلغها الأستاذ جوستاف لوبون إلى ستمائة ألف، ولاحظ بهذه المناسبة أن شارل الحكيم الذي اعتلى عرش فرنسا سنة ١٣٦٤ أي بعد خلافة الحكم بأربعمائة سنة، لم يستطع أن يجمع في المكتبة الأهلية بباريس حين أسسها إلا تسعمائة مجلد كتب ثلثها في علوم الدين. ناهيكم بالثمانين ألف مجلد التي دمرها (كيمينيس) في ساحات غرناطة وبما أحرقه التتار في بخارى وسمرقند وأغرقه هلاكو ببغداد عاصمة العلم والعالم في ذلك العهد! ويلوح لي أنه ليس في ذلك كثير من المبالغة، فأن في المؤلفين من تبلغ تصانيفه بضع مئات، وإن في المؤلفات ما يقع في عشرات المجلدات، فلأبي عبيدة مائتا كتاب، وللكندي واحد وثلاثون ومائتان، وللرازي