ليس له ثمر من فاكهة النبات. فبالله أليست هذه دعابة؟ ثم أليست فكرة المعري مأخوذة من بيت البحتري، إذ يعنى أن النبع الذي يمد القانص بالقوس من خشبه لا يعير بأنه ليس له ثمر من فاكهة النبات لأنه يكون سبباً في اقتناص القنص فله مزايا؟ فأيهما إذاً العابث؟ على أنه لو كان شعر البحتري عبثاً لكان أفضل من كثير من عبث الحياة الذي يسمى جداً على سبيل تسمية الضد بالضد. ثم أما كفى المعري إضاعة وقته بشرح عبث الوليد في زعمه حتى يضيع جزءاً آخر من وقته بالإشارة إلى معانيه
والبحتري أقرب الشعراء في صناعته إلى أبي تمام وإن كان أبو تمام أكثر جرأة في تلك الصناعة وأعظم ابتداعاً. ونجد لأبي تمام معاني يجاريها البحتري، فأبو تمام يقول:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طُويَتْ أتاح لها لسان حسود
فيقول البحتري في المعنى نفسه:
ولن تستبين الدهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تُدْلَلْ عليها بحاسد
وبيت أبي تمام أسير وأحسن معنى. وألاحظ أن الصناعة هنا هي التي أثقلت بيت البحتري وعاقته عن السير. أما أبو تمام فعرف كيف يجعل الصناعة خادمة للمثل السائر وأبى أن يعوقه بأن يحمله ثقلاً من الألفاظ، وهذا المعنى هو نصف الحقيقة المشاهدة في الحياة، والنصف الثاني من الحقيقة هو ما عبر عنه الشريف الرضي بقوله:
رُبَّ نعيم زال ريعانه ... بلسعة من عقرب الحاسد
وهناك فرق قليل في المعنى بين بيت البحتري وبيت أبي تمام ولكن الموضوع واحد. وقال أبو تمام أيضاً:
لو سعيت بقعة لإعظام نعمي ... لسعى نحوها المكان الجديب
فقال البحتري:
فَلَو أنَّ مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
وقال أبو تمام أيضاً في أرجوزة:
إن الربيع أثر الزمان ... لو كان ذا روح وذا جثمان
مصوراً في صورة الإنسان ... لكان بَسَّاماً من الفتيان