أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد زاد البحتري في المعنى واختصر كلماته وأحسن سبكه. والحقيقة هي أن البحتري قلما يأخذ معنى إلا زاد فيه وأجاد سبكه أو تصرف في معناه. أنظر كيف أخذ قول أبي الصخر الهذلي:
تكاد يَدِي تَنْدَى إذا ما لمستها ... وتنبت في أطرافها الورق الخُضر
فالهذلي يقول إنه إذا لمس حبيبته أعدته بالحسن، ولكن أي حسن؟ حسن النبات، فجعل البحتري العدوى بحسن الإنسان فقال:
أغتدي راضياً وقد بتُّ غضبا ... ن وأمسى مولى وأصبح عبدا
وبنفسي أفدى على كل حال ... شادياً لو يُمَسُّ بالحسن أعدى
وقد ظلم أبن الرومي البحتري بقوله فيه:
كل بيت له يُجَوِّدُ معنا ... هـ فمعناه لابن أوس حبيب
فإننا لو شئنا لأتينا بأبيات يشترك في معانيها ابن الرومي ومن كان قبله من الشعراء. ويمتاز البحتري بجودة الصنعة، وكثيراً ما يزيد المعنى، أنظر إلى قول أبي تمام:(ولا يَحيِفُ رضا منه ولا غضب) وإلى قول البحتري:
يُرْتَجى للصفح موتوراً ولا ... يَهبُ السُّؤْدَدَ فيه للحَنَقْ
فصفح الموتور أعظم من صفح الغاضب، والشطر الثاني زاد المعنى بهاء. لا شك أن ابن الرومي كان أكثر ابتداعاً، وكان يجيد الصنعة ولكن للبحتري قطعاً لا يستطيع أبن الرومي محاكاتها في حلاوة الصنعة ولا سيما في المدح، ومدح البحتري كان أسهل متناولاً، ولعل هذا وحلاوة صنعته مما جعله مسعوداً لدى الممدوحين أكثر من أبن الرومي. والظاهر أن الأمراء، والوجهاء كانوا يسيئون الظن بمدح أبن الرومي أحياناً لأنه كان هجاء ساخراً، ومن كان كذلك حُمِلَ بعض مدحه على محمل السخر، وهذا أمر مشاهد في الحياة. أما البحتري فإنه يذكرنا بما يحكى عن أحد طهاة باريس الذي أجاد صناعة الطهي حتى أنه طبخ ذات مرة نعلاً سال له لعاب آكليه من جودة صناعة الطهي. وقد بلغت جودة الصنعة في شعر البحتري مبلغاً جعلها تحاكي العاطفة والوجدان كما نرى في بعض غزله، ولكن لو كان كل ما في شعر البحتري حلاوة في الصنعة لما حفل به أبن الرومي قدر ما حفل به؛