للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأما إتقان صناعة البحتري محاكاة صدق العاطفة فهي صفة في كبار الفنانين. فالممثل الكبير إذا مثل الحزن أو الحب لم تفرق بين الحقيقة والمحاكاة، بل إن المحاكاة تصير حقيقة حتى أن الفنان نفسه قد يخدع بمظهرهما في نفسه كما يخدع المعجبون بفنه، ومن أجل ذلك قد تختلط حقيقة العاطفة ومحاكاتها في حياة الفنان كما تختلط الحقيقة والعاطفة في فنه. أنظر مثلاً إلى قصة البحتري وغزله في مملوكه نسيم الذي كان يبيعه ويقبض ثمنه ثم يصنع فيه غزلاً من أرق الغزل ويعرضه على المثرى الذي اشتراه فيرد المملوك إليه هدية فيربح المملوك، ويربح ثمنه، ويصنع غزلاً من غزل محاكاة العاطفة، ولكن حلاوة الصنعة فيه تغطي على المحاكاة وتختلط الحقيقة والخيال فيه.

والمدح في شعر البحتري لا يقل كثيراً في جودته عن المدح في شعر أبي تمام. وإذا أردت أن تنتخب خلاصة الخلاصة لم تستطع ترك المدح من شعرهما. أما أبن الرومي فإن له أشياء في موضوعات وأبواب أخرى تلهيك عن مدحه عند اختيار خلاصة الخلاصة من شعره، وإن كان له في المدح قدرة كبيرة. ومن بديع شعر البحتري في المدح قوله:

تلقِى إليه المعالي قصد أوجهها ... كالبيت يقصد أَمّاً بالمحاريب

كالعين منهومةً بالحسن تتبعه ... والأنف تطلب أعلى منتهى الطيب

وقوله:

علا رأيه مرمى العقول فلم تكن ... لتنصفه في بعده وارتفاعه

وقارب حتى أطمع الغر نفسه ... مكاذبة في ختله واختداعه

فهذه الأقوال ليست صنعة فحسب بل هي أيضاً خيال وفكر. وأنظر إلى قوله في مدح قوم توارثوا خصال الحمد:

خلقٌ منهم تردد فيهم ... ولِيَتْه عصابة عن عصابَهْ

كالحسام الجراذ يبقى على الده ... ر ويفنى في كل عصر قرابه

أو قوله:

جهير خطاب يخفض القوم عنده ... معاريض قول كالرياح الرواكد

وهذا تشبيه بديع، وانظر إلى قوله:

مدرك بالظنون ما طلبوه ... بفنون الأخبار فناً ففناً

<<  <  ج:
ص:  >  >>