الأموية تحت ضربات بني العباس، وقامت في المشرق خلافة جديدة هي الخلافة العباسية؛ ورأت العصبة العباسية الظافرة أن تتوج ظفرها بسحق الأسرة التي استولت على تراثها واجتثاث أصولها وفروعها، فنظمت مطاردتها الشهيرة لبني أمية، وتتبعتهم بالقتل الذريع في كل مكان، وقتلت منهم جماعة كبيرة من الأمراء والسادة ولم تبق حتى على النساء والأطفال؛ ولكن هذه المطاردة الدموية الشاملة لم تجتث الشجرة من أصلها، وشاء القدر أن يفلت بعض فروعها، وأن يزكوا ليستعيد أصله الراسخ في أرض أخرى؛ فكان ممن نجا من المذبحة الهائلة فتى من ولد هشام بن عبد الملك، اختاره القدر ليحمل مصاير الدولة الأموية إلى وجهة أخرى
هذا الفتى هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام. وكان وقت أن حلت النكبة بأسرته يقيم مع أهله وإخوانه في قرية تعرف بدير يوحنا من أعمال قنسرين، وفيها كان مولده قبل ذلك بعشرين عاماً؛ وكان أبوه معاوية قد توفى شاباً في أيام أبيه هشام، فكفله واخوته جدهم هشام؛ ولما وقعت النكبة وأمعن الظافرون في مطاردة بني أمية فر عبد الرحمن بأهله وولده إلى ناحية الفرات وحل هنالك ببعض القرى، واختفى بها حيناً يدبر أمره؛ وكان يرقب الموت في كل لحظة، ولكنه كان في الوقت نفسه يتجه بذهنه إلى مستقبل بعيد غامض. وبينا هو في هذا الجزع القاتل يدبر أمره، وإذا بجند المسودة تطوق القرية، وتستقصي آثار بني أمية؛ وإذا بعيد الرحمن يرى شبح الموت أمامه فجأة، فيحاول اجتنابه بالفرار من مطارديه
وقد انتهت إلينا عن هذا الفرار قصة مؤثرة نقلها إلينا مؤرخ أندلسي مجهول عن لسان عبد الرحمن ذاته، ونقلها عنه بعد ذلك أبو حيان مؤرخ الأندلس وخلاصتها أن عبد الرحمن حينما علم أن القرية قد غصت بجند المسودة، بادر إلى شيء من المال فحمله، وفر مع أخيه الأصغر، وهو صبي في الثالثة عشرة من عمره، وقصدا إلى شاطئ النهر (الفرات) فدل عليه بعض الخونة فما شعر إلا والخيل في أثره، فألقى بنفسه في النهر مع أخيه وأخذا يقطعانه سباحة، واستطاع عبد الرحمن أن يصل إلى الضفة الأخرى؛ ولكن الغلام عجز عن قطعه، وآثر أن يعود إلى الضفة الأولى بعد أن وعده الجند المطاردون بالأمان؛ ولكنه ما كاد يقع في أيديهم حتى انقضوا عليه وقطعوا رأسه أمام عيني أخيه وقلبه يتفطر روعة