للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هذه الصورة تمثل الفلاح ابن الأرض وعبد الأرض؛ قصر نظره على الأرض ليزرع، كما قصرت البهيمة نظرها على الأرض لترعى؛ فلا هو يطمح أن يكون إنساناً يترقى، ولا هي تطمح أن تكون طائراً يرتفع. حتى الصلاة لا يعرف الفلاح منها غير الركوع والسجود؛ أما دخوله فيها بالتكبير، وخروجه منها بالتسليم، فمعنيان ميتان في نفسه، لا يفهم من الأول صلته بالله، ولا من الآخر صلته بالناس. وإذا علمت أن هذا الفلاح في بعض الأمم الدستورية الشرقية هو الكثرة الكاثرة والسواد السائد، علمت كيف يُزوَّر فيها الرأي العام، ويُزَّيف النظام الديمقراطي!

كانت هذه الصورة في تلك الليالي مثاراً للحديث عن الفلاح وما يتحمله من سوء الحالة وقبح الجهالة؛ وكانت القهوة على ما تريد (الوقاية) مغلقة النوافذ مرخاة الستائر لا تملك لضوضائها المكبوتة وأنفاسها المحبوسة متنفَّساً ولا فرجة؛ وكان اصطكاك النرد وارتفاع الأصوات وضجة المذياع قد جعلتنا أشبه باليهود في بُرصة العقود، فلم نكد نسمع الأستاذ عدلي وهو يلقي هذا السؤال على الأستاذ توحيد:

- إذا صح أن الشعور بالنقص مبدأ الكمال، فبماذا نعلل بقاءنا في هذا الدرك الأسفل من الحياة ونحن لا نكاد نسمع في كل مكان ومن كل إنسان غير الشكوى من اختلال النظم واعتلال احكم وانحلال الخلق؟

فقال الأستاذ توحيد: أما إجماع الناس على الشكوى من سوء الحال فما أظن الواقع يؤيده. وإذا كنت تعني إجماع أهل الرأي من رجال الثقافة والصحافة، فإن شكوى هؤلاء لا تدل إلا على آلامهم هم. والقول بأن الأمة متمدنة لأن فيها قوماً يأكلون أكل الذوات، ويلبسون لبس الخواجات؛ وبأنها متعلمة لأن فيها جماعة يحملون شهادات من كل نوع، ودرجات من كل قياس؛ وبأنها طموحة لأن فيها طائفة من مرهفي الحس وعشاق الكمال يطمحون إلى خطير المساعي، ويتشوفون إلى بعيد المطامع؛ ذلك القول لا يسوغه إلا الغرور أو الهزل.

صحيح أننا كنا نقول قبل اليوم: إن المصريين أصل الناس، وإن مصر أم الدنيا؛ فلما رقَّت الأغشية الكثيفة عن العيون، كدنا نبصر موقعنا من البلاد وموضعنا من الأمم، ولكن ذلك لا يعني أننا شعرنا بالنقص، ووقفنا على العلة، وبرمنا بالجمود، ونزعنا إلى التكمل.

أن الفلاحين وهم جمهور الأمة قد مات في نفوسهم - لسبب لا أدريه - ذلك القلق الروحي

<<  <  ج:
ص:  >  >>