ونحن نرى أن الكندي برئ من التهمتين جميعا: تهمة الانتساب إلى اليونان وتهمة الإلحاد. وإنما شاع ما شاع عنه بدافع أغراء الحساد والمنافسين. ذكر أبن النديم في الفهرست عند الكلام على أبي معشر المنجم (أنه كان أولا من أصحاب الحديث. وكان يتضاغن الكندي، ويغري به العامة، ويشنع عليه بعلوم الفلاسفة).
وأنصفه المغفور له مصطفى عبد الرزاق في بحث له عن الكندي فقال:(هكذا يبلغ العبث بالتاريخ حدا يشوه من خلق الكندي ومن عقله، وقد كان الرجل في خلقه وفي عقله من أعظم ما عرف البشر).
وأكبر الظن أن المعاصرين للكندي أضافوا إليه القول بالانتساب إلى يونان، لما رأوه من انصرافه إلى البحث في الفلسفة اليونانية، ونقل أراء الفلاسفة وكتبهم إلى العربية، مع تحبيذ هذه الآراء والدفاع عنها. القفطي في أخبار الحكماء أن الكندي هو المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة طبقات الأطباء (حذاق الترجمة في الإسلام أربعة: حنين بن إسحاق، ويعقوب بن إسحاق الكندي، وثابت بن قرة الحراني، وعمر بن الفرخان الطبري).
كان الكندي أذن حذاق المترجمين عن اليونانية، وله في الدفاع عن الفلسفة اليونانية حجة لطيفة خلاصتها أن الفرد الواحد لا يستطيع بلوغ الحق وحده فلا بد من التعاون في الفكر والأخذ عن المتقدمين إلى أن قال:(وغير ممكن أن يجتمع في زمن المرء الواحد وان اتسعت مدته، واشتدت بحثه، ولطف نظره، واثر الداب، ما أجتمع بمثل ذلك من شدة البحث، وألطاف النظر وإيثار الدأب في أضعاف ذلك الزمان الأضعاف الكثير. فأما أرسطو طاليس، مبرز اليونانيين في الفلسفة فقال: ينبغي لنا أن نشكر أباء الذين أتوا بشيء من الحق، إذ كانوا سبب كونهم، فضلا عن أنهم سبب لهم. وإذ هم سبب لنا إلى نيل الحق، فما أحسن ما قال في ذلك).
ثم أضاف بعد ذلك: وينبغي لنا إلا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، من الأجناس القاصة عنا والأمم المباينة. . .).
ولسنا ندري هل كان الكندي هو الذي بدا الهجوم على رجال الدين، أم كان يدفع عن نفسه هجماتهم. ذلك أن الفلسفة لم تكن قد أوغلت في الحضارة الإسلامية، ولم يكن العهد بينه