للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إنهما في لا فيك. ولسنا الآن يا بني في متحدثٍ كنديِّ القوم يتطارحون فيه أخبارهم، بل نحن في مجلس علمٍ تكلمت فيه رقبةُ هذا ورقبةُ هذا بما سمعت؛ فقم أنت فاذكر علم قلبك وقص علينا خبر طيش الحبَّ والشباب الذي يشبه الكلام فيه أن يكون كلاماً عن الصعود إلى القمر والقبضِ من هناك على البرق!

قال المسيّب: فانتهض الفتى، ورأيت مجاهداً يتنهّد كأنما انصدعت كبده؛ فقلت: ما بالك؟ قال: إن شبابي قد مرّ على الساعة فنسمت منه في بردة هذا الفتى، ثم فقدته فقداً ثانياً فهرمت هرماً ثانياً، وجاءني الحزن من إحساسي بأني شيخ حزن من همّ أن يدخل باب حبيبٍ ثم رُدّ. . .!

وتحدث الفتى، فإذا هو يديرُ بين فكيه لسان شاعرٍ عظيم، يتكلم كلامه بنفسين: أحدهما بشريةٌ تصنع المعنى واللفظ، والأخرى علويةٌ تلقى فيها النار والنور

قال: إن لي قصة أيُها الشيخ، لم يبقى منها إلا الكلامُ الذي دفنت فيه معانيها؛ وقد تأتي القصة من أخبار القلب مفعمة بالآلام والأحزان، لا يراد بآلامها وأحزانها إلا إيجاد أخلاق للقلب يعيش بها ويتبدّل. والذي قُدِّر عليه الحبُّ لا يكون قد أحب غيره أكثر مما يكون قد تعلم كيف ينسى نفسه في غيره، وهذه كما هي أعلى درجات الحبّ - فهي أعلى مراتب الإحسان

ومتى صدق المرءُ في حبّه كانت فكرتهُ فكرتين: إحداهما فكرةٌ والأخرى عقيدةٌ تجعل هذه الفكرة ثابتة لا تتغيّر؛ وهذه كما هي طبيعة الحب فهي طبيعة الدِّين

ولا شيء في الدنيا غير الحب يستطيع أن ينقل إلى الدنيا ناراً صغيرة وجنة صغيرة، بقدر ما يكفي عذاب نفس واحدةٍ أو نعيمها! وهذه حالة فوق البشرية.

والفضائلُ عامَّتُها تعمل في نقل الإنسان من حيوانيته، وقد لا تنقل إلا أقلّه ويبقى في الحيوانية أكثره؛ ولكن الحب الصادق يقتلع الإنسان من حيوانيته بمرةٍ واحدة، بيد أنه لا يكون كذلك إلا إذا قتله بآلامه؛ فهو كأعلى النسك والعبادة.

كان من خبري أني دٌعيتُ يوماً إلى ما يدعى لمثله الشباب في مجلس غناءٍ وشراب يا له من مجلس! وقد قال تعالى: (إن اللهَ لا يَسْتَحي أن يَضرِبَ مَثلاً ما بَعُوضةً فما فوْقَها) والبعوضةُ في قصتي أنا كانت امرأة نصرانيّة. . . قينة فلان المغنية الحاذقة المحسنة

<<  <  ج:
ص:  >  >>