المتأدبة، تحفظ الخبر وتروي الشعر، وتتكلم بألفاظ فيها حلاوة وجهها، وتخلق النكتة إذا شاءت خلق الزهرة المتفتحة عليها سقيط الندى؛ وتجدُّ بالحديث ما شاءتْ وتهزل، فتجعل للكلام عقلاً وشهوة تضاعفُ بهما من تحدثه في شهواته وعقله!
وستجري في قصتها ألفاظ القصة نفسها، لا أتأثَّمُ من ذلك ولا أتذمم؛ فقد ذكر الله الخمر بلفظ الخمر ولم يقل:(الماء الذي فيه السكر)، ووصف الشيطان ولم يقل:(الملك الذي عِمل عملَ المرأة الحسناء في تكبرها)، وذكر الأصنام بأنها الأصنام ولم يُسمِّها:(حاملة السماء التي يصنعها الإنسان بيديه)، وحكاية ما بين الرجل والمرأة هي كلامٌ يقبِّل بعضهُ بعضاً ويلتزمُ ويتعانق!
قال المسيَّب: فتبسم إمامنا ونظرتْ عيناه تسألان سؤالاً. أما مجاهدٌ الأزدي فكان من هزةِ الطَّرب كأنه على قتب بعير، وقال: لله دَرُّه فتىً، إن هذا لبيان كحيلُ العين. . .
ثم قال الفتى: وذهبت إلى المجلس وقد جعلته هذه المغنيةُ من حواشيه وأطرافه كأنه تفسيرٌ لها هي. أما هي فجعلتْ نفسها تفسيراً لكلمةٍ واحدة هي:(اللذّة. . .)
قال المسيَّب: وطرب مجاهدُ طرباً شديداً، وسمعته يخافت بصوته يقول:(لله درُّها امرأة، هذه، هذه عدوّةُ الحور العين!)
ثم قال الفتى: وتطرّب جماعة أهلِ المجلس إلى الشرب، وما ذقت خمراً قط، ولن أتذوقها ولو شربها الناس جميعاً، ولن أذوقها ولو أنقطع الغيثُ ولم تمطر السماء إلا خمراً؛ فأني مذ كنت يافعاً رأيت أبي يشربها، وكانت أمي تلومه فيها وتشتد في تعنيفه وتحتدم، وكانا يتشاحنان فينالُها بالأذى ويندرئُ عليها بالسبَّ وفحش القول. وسكر مرة وغلبه السكر حتى ثارت أحشاؤه فذرعه القيء فتوهمني وعاء، وجاء إلى وأنا جالس فأمسك بي وقاء في حجري، حتى أفرغ جوفه، وثارت أمي لتنتزعه وأنشأت تعالجه عني فتصارع جنونه وعقلها حتى كفأته على وجهة كالإناء؛ فالتوى كالحية بطناً لظهر وستجمع كالقنفذ في شوكه، ثم لكزها برجله أسفل بطنها فانقلبت، وأصاب رأسها إجانة العجين فتثلم تثليم الإناء كأنما شدخ ضرباً بحجر، وأنتثر دماغها على الأرض أمام عينيّ، ورأيتها لم تزد على أن دفعت بإحدى يديها في الهواء وضمت بالأخرى إلى صدرها، تتوهم أنها تحميني وتدفعه، ثم سكنت ولو لم تمت من الشجة في رأسها لماتت من الضربة في بطنها!