قال المسيَّب: وأطرق الفتى هُنيهةً وأطرق الناسُ معه؛ فرفع مجاهد صوته وقال: رحمها الله! فقال الناس جميعاً: رحمها الله!
ثم قال الفتى: وكان عامة من في المجلس يعرفون ذلك مني، ويعرفون أنه لو ساغ لإنسان أن يشرب دم أمِّه ما شربتُ أنا الخمر. فقالوا للمغنيِّة: إن هذا لا يدخلُ في ديواننا. فنظرت إليّ، وهربتُ أنا من نظرتها بإطراقة؛ ثم قالت: تشربُ على وجهي؟ فقلت لها: إن وجهك يقول لي: لا تشرب. . . فتضاحكت وقلت: أهو يقول لك غير ما يقول لهؤلاء؟ فهربتُ من كلامها بإطراقةٍ أخرى، ووصلت الإطراقتان ما بيني وبين قلبها؛ وتنبه فيها مثل حنوِّ الأمّ على طفلها إذا آذته بلسانها فأطرق ساكتاً يشكوها إلى قلبها!
والتفت لمن حضر وقالت لهم: لست أطيبُ لكم ولا تنتفعون بيّ إلا أن تشربوا لي ولهُ ولأنفسكم، وانحطّ عليهم الساقي، فشربوا أرطالاً وأرطالاً، وهي بين ذلك تغنيّهم وقد أقبلت عليهم وخلا وجهها لهم من دوني وإنما تخالسني النظرة بعد النظرة
فوسوس لي شيطاني أن تشدد مع هذه بمثل عزمتك مع الخمر. ولكني كنتُ أُحدُّ النظر إليها، فمرةً أوامقُها نظرة المحبِّ للحبيب؛ وكأني بذلك كنتُ آخذها وأدعها، وأصلها وأهجرها. فقالت لي كالمنكر عليّ: ما بالك تنظر إليّ هكذا! ولكن هيئة وجهها جعلت المعنى: لا تنظر إليّ إلا هكذا. . .!
وأسرع الشرابُ في القوم وأفرط عليهم السُّكر؛ فبقيت لي وحدي وبقيتُ لها وحدها؛ ثم تناولت عودها وضمته إليها ضماً شديداً أكثر من الضمّ. . . وألمسته صدرها ونهديها، ثم رنت إليّ بمعنى، فما شككتُ أنها ضمةٌ لي أنا والعود؛ ثم غنت هذا الصوت:
ألا قاتل اللهُ الحمامة غُدوةً ... على الغصن؛ ماذا هيجتْ حين غنتِ؟
فما سكتت حتى أويتُ لصوتها، ... وقلتُ: تُرى هذى الحمامة جنتِ؟
وما وجْدُ أعرابيةٍ قذفتْ بها ... صُروفُ النوى من حيث لم تكُ ظنتِ. . .
إذا ذكرتْ ماَء العضاهِ وطيبَه، ... وبرْد الحمى من بطنِ خبتٍ، أرنِّتِ. . .
بأكثر مني لوعةً، غيرَ أنني ... أجمجمُ أحشائي على ما أجنتِ!
وغنَّته غناءً من قلبٍ يئنّ، وصدرٍ يتنهّد، وأحشاءٍ لا تخفى ما أجنتْ؛ وكانت ترتفع بالصوت ثم كأنما يهمي الدمعُ على صوتها، فيرتعش ويتنزّل قليلاً قليلاً حتى يئنَ أنين