للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والانفعال بالغير كما نراه على أشده في المراحل الأولى من حياة الفرد الذي لا يزال في دور تكوين الشخصية، تراه في حياة الجماعات في أول أمرها، وفي حياة الأمة التي تحس ضعفها إزاء غيرها من الأمم. وفي هذا كله، قد يكون التمثل بالغير في الخير، كما قد يكون في غير الخير. وإلينا بعض المثل.

كان الأزهر إلى مفتتح هذا القرن العشرين شخصية خاصة به تتمثل، فيما تتمثل فيه، في طابعه الخاص في دراساته وامتحاناته ينتسب إليه من يريد غير مقيد بكثير من القيود التي نعرفها اليوم، ويتلقى فيه العلم الذي يريد على من يحب من الشيوخ، ثم متى أحس أنه وصل من المعرفة والعلم إلى ما يجيز له أن يكون من علمائه تقدم للامتحان. شأنه في ذلك، إلى حد كبير، شأن (السوريين) أو كلية الآداب بجامعة باريس هذه الأيام!

ثم أرادت الحكومة إصلاحه (أو إفساده لا أدري!)، متأثرة بثورات الطلاب ومطالبهم، فأدخلت عليه - في الانتساب والدراسة وشئون الامتحانات - الكثير من القيود شيئاً فشيئاً متمثلة بذلك وزارة المعارف في معاهدها ودور التعليم بها، حتى أصبحنا في هذه الأيام نجده يحتذيها في كل شئ تقريباً: مثل عدد سني الدراسة ونظمها ونظم الامتحانات، وبهذا - في رأيي فقد الأزهر الكثير من شخصيته وطابعه وأصالته.

أما انفعال الأمة كلها بالغير في كثير من أمورنا العامة، والخطيرة، فأوضح من أن نحتاجلأن ندل عليه. ومع هذا، فإني أشير إشارة عابرة إلى أثر ذلك في التعليم والدستور والقوانين ونظم القضاء. وليس ببعيد منا ما كان من فرض قانون مدني جديد قدمه واضعه بعد أن صاغه من مزق مختلفة من قوانين أمم مختلفة من أمم أوربا. متناسياً أن ما تصلح بهأمة في الغرب قد لا تصلح بهأمةأخرى في الشرق، لاختلاف الدين والتقاليد وإن كان في هذا قدر كبير من الإثم على الأزهر، إذ لم ييسر كتب الشريعة الإسلامية للراغبين في معرفتها، والمعنيين بدراستها، من غير الأزهريين.

على أنه من الضروري أن تنتفع الأمم بعضها ببعض في الفكر ونظم الحياة، ولكن الخطر أن يكون التأثر من طرف واحد دائماً.

إن الانفعال أو التأثر بالغير بإفراط يضيع استقلال من منى به فرداً أو جماعة، ويذهب باستقلال الفكر وأصالة الرأي والعمل. ذلك بأن من يتطلع دائماً إلى غيره ويسأله ماذا يرى

<<  <  ج:
ص:  >  >>