هياما وغبطه تخرج بنا من عالم الحس والمادة إلى نور الحقيقة واليقين. نعم انه يصعب علينا أن نحلل هاتين الظاهرتين تحليل نفسياً دقيقاً، ولكنا نستطيع أن نلاحظ انهما يمثلان أسمى أعمال العقل الإنساني التي ترمي إلى الخير الأعلى. ومتى وصل المرء إلى مرتبتهما أحس بسعادة تجل عن الوصف وغبطة لانهاية لها. وفي عبارات الفارابي ما يعلن عن الأصل الإسكندري الذي أعتمد عليه والذي لا يمكن أن يكون شيئاً آخر سوى كتاب الربوبية. ولنكتف بتقديم نص واحد من كل طرف يشهد بذلك. يقول الفارابي:(إن لك منك غطاء فضلاً عن لباسك من البدن، فاجتهد أن ترفع الحجاب وتتجرد، وحينئذ تلحق. فلا تسل عما تباشره، فإن ألمت فويل لك، وإن سلمت فطوبى لك. وأنت في بدنك تكون كأنك لست في بدنك، وكأنك في صقع الملكوت، فترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فاتخذ لك عند الحق عهداً، إلى أن تأتيه فرداً). ويقول صاحب كتاب الربوبية أو أثولوجيا:(ربما خلوت أحيانا ً بنفسي وخلعت بدني فصرت كأني جوهر مجرد بلا جسم. فأكون داخلاً في ذاتي وراجعاً إليها وخارجاً من سائر الأشياء سواي، وأكون العلم والعالم والعلوم جميعاً. وأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى معه متعجباً، وأعلم عند ذلك أني من العالم الشريف جزء صغير. وحين أوقن بذلك أرقى بذهني إلى العالم الإلهي، ويخيل إلي كأني قطعة منه. فعند ذلك يلمع لي من النور والبهاء ما تكل الألسن عن وصفه والآذان عن سمعه. ومن الغريب أني أشعر بأن روحي مملوءة بالنور مع أنها لم تفارق البدن). هذان النصان من غير تعليق ناطقان بالقرابة القربى والعلاقة الوثيقة بين الجذب الذي دعا إليه رجال مدرسة الإسكندرية، والاتصال الذي جد في طلبه الفارابي. وكتاب الربوبية هو المرآة التي عكست كثيراً من آراء أفلوطين وأتباعه على العالم الإسلامي.