الملاحظة تمام التأييد، فإنها مأخوذة نصاً عن أصل أرسطي؛ وذلك أن أرسطو في شرحه للخير يقول في الكتاب العاشر من الأخلاق النيقوماخية إنه فضيلة تتكون في الوحدة وبالتأمل العقلي وتخالف الفضائل الإنسانية الأخرى المتعلقة بالجسم. هو قوة تأملية تكتفي بنفسها وتدرك الحق المطلق، وفضيلة عليا لأنه يتصل بأسمى شيء في الإنسان وهو العقل. وباختصار هو فضيلة الفضائل لأنه يصدق على الجانب القدسي حقيقة في الإنسان. ليس هناك شك في أن هذه الفقرات أساس لنظرية الفارابي في السعادة والاتصال. ففي رأيه، كما في رأي أرسطو، الحياة العقلية غاية في نفسها. ومتى جد الإنسان في الدراسة والنظر والبحث والتفكير تشبه بالله والعقول المفارقة التي هي إدراك مستمر وتأمل دائم. ومتى انقطع الإنسان إلى هذا المجهود النظري أقترب من الكائنات العلوية، وفاز بسعادة ليست وراءها سعادة. فأرسطو الواقعي مصدر الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية، و (الأديمونيا) الأرسطية عماد لنظرية السعادة الفارابية. وإذا تتبعنا كل ما وصل إلينا من كتب أرسطو لم نجد فيه إلا نصين اثنين يشعران بروح خفية وينزعان نزعة صوفية. وهما ما أشرنا إليه آنفاً في كتاب الأخلاق النيقوماخية وما جاء في كتاب النفس خاصاً بوظيفة العقل الفعال وأثره في تكوين المعلومات العامة. وكلا النصين أثر تأثيراً عميقاً في فلاسفة الإسلام وآرائهم الصوفية والنفسية. حقاً إن الفارابي ضنين بأسراره ولا يجب أن يقف قراءه على مصادر أفكاره؛ بيد أن عباراته تكفي للبرهنة على ما ذهبنا إليه. وأبن رشد الذي يعتنق نظرية الفارابي في الاتصال يقول لنا إن هذه النظرية جواب على سؤال أرسطو ولم يجب عليه. فبعد أن وضح كيف يدرك (النوس) أو العقل الحقائق المجردة قال: (سنرى فيما بعد إذا كان في مقدور العقل الإنساني - ولو أنه غير مفارق - أن يدرك أشياء مفارقة بذاتها). ولما لم يف أرسطو بوعده أخذ فلاسفة الإسلام على عاتقهم أن يتلافوا هذا النقص ويجيبوا على هذا السؤال.
غير أن أرسطو وحده لا يكفي في توضيح نظريات الفارابي التصوفية؛ ذلك لأن بينه وبين الفيلسوف العربي مدرسة الإسكندرية التي أثرت كذلك في فلاسفة الإسلام عامة وعلى رأسهم الفارابي. والاتصال الذي يقول به الفارابي لا يختلف كثيراً عن (الاكْستَاسيس) أو الجذب الذي قالت به مدرسة الإسكندرية. فالاثنان يعتمدان على التأمل والنظر وينتجان