وحده، تقريباً نصل إلى السعادة. أما العمل ففي المرتبة الثانية ومهمته ثانوية للغاية. على عكس هذا يقرر الصوفية أن التقشف والحرمان من الملذات الجسمية وتعذيب الجسم هو الوسيلة الناجعة للاتحاد بالله. يقول الجنيد:(ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات).
ثانياً: - وهذا فرق جوهري - الاتصال الذي يقول به الفارابي مجرد سمو إلى العالم العلوي وارتباط بين الإنسان والعقل الفعال دون أن يمتزج أحدهما بالآخر. أما المتصوفة فينظمون من العبد والرب وحدة غير منفصلة، ويقولون بحلول اللاهوت في الناسوت. وعلى هذا يتلاشى أنا في أنت تماماً ولا يتميز الخلق من الخالق. وهذا هو سر حملة أهل السنة على هذا الخلط غير المقبول والغلو المفرط. حقاً أن الفارابي يذهب في فقرة واحدة غريبة إلى أن الإنسان حين يصل إلى درجة السعادة يحل فيه العقل الفعال. غير أنه لا يمكن أن يقبل هذا التعبير على علاته ويجب أن يحمل حملاً مجازياً. فأن صاحبه يلاحظ غير مرة أن العقل المستفاد وهو أسمى درجات الكمال الإنساني يختلف في طبيعته ووظيفته ومرتبته عن العقل الفعال. ويرى الفارابي فوق هذا أن الموجودات في تدرجها مكونة من طبقات بعضها فوق بعض؛ والله مثال الكمال المطلق، وبينه وبين الإنسان والعالم الأرضي كله فواصل متعددة. فنظريات الفارابي الميتافيزيقية والفلكية المختلفة لا تسمح بأن يتحد الخلق مع الخالق أو أن يمتزج العقل الإنساني بالعقل الفعال.
وأخيراً على كلمة اتحاد واتصال فتؤذنان بالفرق الواضح بين نظرية الحلول الحلاجية ونظرية السعادة الفارابية؛ فأن الكلمة الأولى التي تنصرف عادة إلى نظرية المتصوفة تدل على الاندماج التام بين المخلوق والخالق، في حين أن الكلمة الثانية التي تطلق على نظرية الفلاسفة تشعر فقط بمجرد علاقة بين الإنسان والعالم الروحي.
فالواجب علينا إذن أن نبحث عن منبع آخر يمكن أن تكون نظرية السعادة الفارابية في جملتها قد استقيت منه. وإذا شئنا تعرف هذا المنبع وجب علينا أن نصعد إلى أرسطو وإلى كتابه الأخلاق النيقوماخية بوجه خاص. يقول جلسون:(ليس ثمة فكرة ولا عبارة لدى أرسطو لم تنظر ولم ينتفع بها شراحه. وهذه الملاحظة صادقة على العموم في كل المشاكل التي درسها وخاصة في مشكلة العقل). ونظرية الاتصال التي نحن بصددها تؤيد هذه