ما ينهض دليلاً على ذلك. فقد جارى المتصوفة وشرح لنا المراتب التي يمر بها من يرغب في السعادة. والمرتبة الأولى في رأيه هي مرتبة الإرادة، وتتلخص في شوق زائد ورغبة أكيدة في تنمية المعلومات واكتساب الحقائق الخالدة. فإن كانت هذه الرغبة مؤسسة على دوافع حسية أو خيالية فهي مجرد إرادة، وإن قامت على التفكير والتأمل فهي اختيار حقيقي. وبعد الاختيار تجيء السعادة التي تحدثنا عنها من قبل. فهذا التدرج في جملته يشبه من بعض الوجوه منازل الصوفية.
وفوق هذا فقد عاصر الفارابي كبار الصوفية الذين يقولون بالحلول، وعلى رأسهم الجنيد المتوفى سنة ٩١١ ميلادية وناشر نظرية الاتحاد الصوفية ومردد الجملة المأثورة: اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب). ويروى أن الشبلي دخل عليه يوماً وبحضرته زوجه، فأرادت أن تحتجب، ولكنه أبى عليها ذلك قائلاً: لا خير للشبلي عندك. ولم يكد الأخير يسمع هذه الكلمة حتى بكى. فقال الجنيد لزوجه على الأثر: استتري فقد أفاق الشبلي من غيبته. والحلاج تلميذ الجنيد من معاصري الفارابي كذلك، فقد توفى سنة ٩٢٢ للميلاد. وهو صاحب الجملة المشهورة:(أنا الحق) التي لاقى من جرائها حتفه. وعلى يديه سما مذهب الحلول إلى أوجه وبدا في أوضح صوره، وتم الاتحاد الكامل بين أنا وأنت. وأشعار هذا العصر الصوفية مملوءة بالغيبة والحضور، والوجد والوجود، والنسيان والذكر. يقول بعضهم:
وجودي أن أغيب عن الوجود ... بما يبدو علي من الشهود
ويقول الآخر:
عجبت لمن يقول ذكرت ربي ... فهل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحب كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب ولا رويت
ربما يبدو بعد الذي تقدم أنا ميالون إلى أن نعقد صلة بين تصوف الحلاج وتصوف الفارابي، وأن نثبت أن آراء أوائل المتصوفة قد أثرت تأثيراً مباشراً في أفكار فلاسفة الإسلام الصوفية، ولكنا نسلم بذلك من ناحية النزعة والتوجيه العام فقط، أما من جهة النظريات في تكوينها وتفاصيلها فأنا نرفضه للأسباب الآتية:
أولاً: تصوف الفارابي نظري مبني على الدراسة والبحث قبل كل شيء. فبالعلم، والعلم