للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهندية ومسيحية وإغريقية. وفي رأي كل متصوف أن الغرض الرئيسي من العمل والتأمل هو الاتصال أو الفناء في الله. يقول رينان: (لم يعرف الشرق أن يقف في العبادة عند حد المبالغة والإسراف، بل كان الاتحاد مع العقل الكلي بوسائل خارجية حلم الطوائف الصوفية في الهند والفرس. وهناك سبع درجات - كما يقول المتصوفة - تقود المرء إلى الغاية النهائية التي هي الفناء المطلق أو النرفانا البوذية، حيث يصل الإنسان أن يقول: أنا الله) ومشكلة أنا وأنت من المشاكل الهامة في تاريخ التصوف الإسلامي، فأنا وهو الشخص الإنساني يعمل على أن ينمحي في أنت وهو الله، وما الحلول الذي قال به الحلاج والذي درسه الأستاذ ماسنيون دراسة عظيمة إلا أوضح مظهر لهذه المشكلة في الإسلام، فهو يتلخص في اختفاء الإنسان في الله، وبذا يتحد أنا وأنت اتحاداً كاملاً.

كان الفارابي صوفياً في قرارة نفسه، يعيش عيشة الزهد والتقشف ويميل إلى الوحدة والخلوة. وقد أفاض مؤرخو العرب في وصف تقشفه وإعراضه عن الدنيا. وابن خلكان خاصة يضعه في مصاف الزهاد والنساك. وبالرغم من أنه عاش في بلاط سيف الدولة بن حمدان وجالس العظماء لم يغير شيئاً من عوائده ولم يخرج عن زهده وتقشفه. فجليس الملوك هذا وصفي الأمراء كان يرى في أغلب الأحيان بالقرب من الطبيعة يناجيها ويستكشفها أسرارها ويستمليها ما حوت من عظات. وقد رووا أنه كتب الكثير من كتبه على شواطئ المجاري المائية وبين الثمار والأزهار. فهذا الاستعداد الفطري الذي نشأ عليه، وهذه النزعة الصوفية التي تمكنت منه، أثرت من غير شك في آرائه وأفكاره، وكانت عاملاً في تكوين نظرية السعادة الفارابية. وأسلوب الفارابي نفسه يتفق مع هذا الاستعداد ويتلاءم مع هذه النزعة؛ فهو إلى الغموض أميل، وفي باب التعمق والتركيز أدخل. وهذا شأن الصوفية جميعاً يرسلون الجمل المختصرة المعماة. وكثيراً ما عانى المستشرقون صعوبات في تفهم عبارات الفارابي وإدراك كنهها، وشكوا من غموضها وتعقدها.

ويجب أن نضم إلى هذا المؤثر الداخلي عاملاً آخر خارجياً، ألا وهو الوسط الذي عاش فيه أبو نصر، فقد تفشت في العالم الإسلامي لعهده أفكار صوفية كثيرة صادرة عن أصل هندي أو فارسي أو إغريقي أو مسيحي. ولا يستطيع أحد أن ينكر تأثره بهذه الأفكار، وفي كتاباته

<<  <  ج:
ص:  >  >>