إليهم الباطل حقاً والحق باطلاً؛ وقف هو هازئاً أبياً يستوحي ربه، ويستفتي قلبه؛ وإذا جرف التيار الخاصة والدهماء، فاضطربوا في موج الحادثات كالغثاء، ترمي بهم كل شط، وتنفر من كل أرض، ثبت الحر كالطود الأشم في البحر الخضم:
يضل كالطود يجري حوله نهر ... من الخطوب له بالناس طغيان
فاتت مآرب أهل الذل قمته ... فما يذلّله نيل وحرمان
إن الرجل الحر صفحة في التاريخ جديدة، وخطوة في سير البشرية متقدمة، على حين لا يظفر التاريخ بجديد في آلاف المواليد، ولا يخطو خطوة إلى الأمام في كثير من الأعوام. وهل التاريخ كما قالوا إلا إعادة وتكرار؟
ولقد أوتي الرافعي من الحرية الإلهية نصيباً، ومن النور الإلهي قلباً، ومن الفيض الإلهي ينبوعاً، فلبث دهره نسيج وحده، وظل حياته ينير للسالكين، ويسقي الظامئين. ولقد أوتي من العزة الإسلامية ما تخر له الجبال، ومن الهمة القرآنية ما تنشق له الأهوال. ولقد أوتي من الإيمان ما أصغر الدهر في سطواته، ومن نور الإيمان ما شق على الزمان ظلماته.
كان الرافعي نوراً وسلاماً، ومحبة ووئاماً، فإذا سيم الدنية في دينه أو في أمته؛ وإذا تجهم الباطل لحقه، أو تطلعت المذلة إلى خلقه، ألفيت النور ناراً تلظى، والسلم حرباً تهيج، والحب بغضاً ثائراً، والرحمة شدة حاطمة.
لبثت سنين طوالا أقرأ للرافعي ولا أراه، وأحبه ولا ألقاه، وأتحدث عنه معجباً ثم أقول لمحدثي: هذا وجه ما سعدت برؤياه، حتى لقيته العام في لجنة التأليف والترجمة والنشر وكأنا صديقان قديمان. ثم أتاحت الفرص لقاءه مرتين أو ثلاثاً كانت آخرتها في دار (الرسالة) بعد أن كتبت مقالتي عن كتابه وحي القلم. ثم افترقنا وما علمت أنه آخر العهد وفرقة الدهر!
وإني لأعترف للقارئ في غير تزيد ولا تصنع أني أجد في نفسي وقلمي تهيباً للكتابة عن الرافعي؛ وأرى جوانب تتسع ثم تتسع حتى يضيق المجال. ولقد حاولت أن أنظم فكنت كلما أخذت القلم تذكرت هذه الأبيات من منظومتي (اللمعات) فقلت إنها تمثله. إنها تمثل الرجل الحر حيث كان
حبذا الصوت فمن هذا البشير؟ ... ومن الهاتف بالقلب الكسير؟