(بردى) وهو يجرى على الأرض، رمز لتاريخ الأمة العربية وهو يجري في الزمان. ففي كل قسم من بردى، فصل من التاريخ:
يخرج (بردى) من بقعة في (الزبداني) منعزلةعبة، لا يبلغها إلا من كان من أبنائها عارفا بمداخلها ومخارجها - كما خرج العرب من هذه (الجزيرة) الصعبة المنعزلة، التي لم تلن إلا لأبنائها، والتي ردت عنها الفاتحين كافة، وجعلت رمالها قبرا لكل من يجرؤ منهم على وطئها، على أنه لم يتجرأ عليها إلا كسرى، فبلغ جيشه (ذي قار)، ولكن الجزيرة قد ابتلعت هذا الجيش وهي تهتف لمحمد، ثم لم يقنعها هذا الثأر، فابتلعت دولته كلها في (القادسية) تحت راية محمد،. . وقالت لعالم: هذا جزاء من يطأ الجزيرة!
ويسير (بردى) في غور عميق لا يخرج الى هذه الجنان الجميلة الفتانة التي قامت على مقربة منه، يسلك قراره الوادي، تلتطم أمواهه وتصطدم: كما كان العرب في جاهليتهم يصطدمون ويقتتلون ويشتغلون بأنفسهم عن العالم، فلم يخرجوا إلى الدنيا، ولم تخضع لجزيرتهم جنات أالشام، ولا سهول مصر، ولا سواد العراق.
ثم يبلغ (بردى)(الفيجة) وهناك تصب فيه أمواهها العذبة الصافية الزاخرة، فلا تخالطه ولا يخالطها، ويسير النهر خمسين متراً، ومن إحدى جهتيه (بردى) القليل العكر، ومن الأخرى (الفيجة) الكثيرة العذبة، ثم يختلطان، فتضيع قلته وكدورته، في كثرتها وصفائها، ويعدو (بردى) قوياً عذباً زاخراً، نحو أرض الورود والثمار.
كمابت على الديانة الجاهلية، مبادئ الإسلام السامية، فتجافى العرب عنها، وأبوا أن يتبعوها، وكادوا لأصحابها، حتى غدت الجزيرة كبردى، فيها المسلمون الموحدون المتحدون، والجاهلون المشركون المختلفون، ثم مكَّن الله لمحمد، فخضعت له الجزيرة لم تخضع قبله لمخلوق، واجتمعت كلها تحت رايته، ولم تجتمع قبل تحت راية واحدة، فقادها إلى الشام والعراق، إلى أرض النخيل والأعناب.
ويبلغ (بردى)(بسيمة) ويبلغ (الجديدة) فيسير بين بسيمة والجديدة، في أجمل البقاع على وجه الأرض، ويسقي هذه الخمائل فيكون شكرها إياه، أفنان الورود، وأغصان الأشجار التي تتدلى فوقه، وتلمس خده لمساً رقيقاً، وتقبل جبينه قبلة طاهرة، وهو يلين تارة فترى حصباءه منفائه، ويشتد أخرى فيرغي ويزبد، ويكون له منظر مرعب ولكنه جميل!