كما كانت الأمة العربية بعد أن بسطت سلطإنها على العالم القديم كله محبوبة مرهوبة في آن، يفزع أعداؤها من هيبتها، ولكنهم يحبون عدلها، وينتفعون بحضارتها. أغاثت بالعدل بقاع الأرض فكان شكرإنها إياها، هذه الأموال التي فاضت بها خزائنها، وهذا النعيم الذي تفيأ ظلاله أبناؤها، وكانت تستقيم لها الأمور فتلين وتدع هذه الرقعة البسيطة من الأرض جنة يسعد بها أهلها، ويسعد بأهلها أهل الأرض جميعاً، وكانت تستغضب، فإذا غضبت غضب لها الدهر، وإذا سارت إلى عدوها سار في ركابها الموت والدمار أنى سارت: كانت نحمل في يمينها السلام والسعادة، وفي يسراها الموت والشقاء، كما يحمل بردى بين (بسيمة والجديدة) الغيث والثمرات، والطوفان والغرق.
ويبلغ بردى (الربوة) ويمشي حيال اليزبين، ذلك المعنى الذي بني من الشعر، وولد فيه الشعر، استحال إلى مقاه من عيدان تقوم على الخمر والقمر والعهر. . . وينقسم بردى إلى أقسام سبعة انتثرت نثراً بين عدوتي الوادي: يزيد، وتورا، وبردى، وبايناس، وقنوات، والديراني، وعقربا - منها القوى الممتلئ، ومنها الضعيف القليل - كما انقسمت الأمة العربية إلى طوائف وحكومات، منها القوي المتين، كحكومةلاح الدين التي ردت - علىغرها - أوربة كلها يسوقها الجهل والتعصب، وانتزعت في (حطين) الفريسة من (قلب الأسد)، وحكومة سيف الله التي هدت في (الحدث) حكومة الرومان هداً، ومنها الضعيف المستكين وقد ازدهرت الحضارة في هذا العهد وأثمرت، كما ازدهرت الأشجار في (الربوة) وأثمرت.
ثم يدخل بردى (دمشق)، فلا يصفق بالرحيق السلسل، ولا يتمايل على الورود والرياحين، بل يصفق بالأوحال والحشائش، ويميل على الأقذار والأوساخ، ويشح ماؤه وينضب ثم يضيع ويضمحل، كما ضاعت عزة العرب واضمحلت. . .
ثم يخرج إلى (الغوطة) فإذا نشق نسيمها عاودته الحياة، ونشأت في مجراه الجاف الصلب، عيون وينابيع، فإذا بلغ (جسر الغيضة) عاد قوياً زاخراً عذباً - كما عادت الأمة العربية اليوم إلى الحياة، ورفعت في الشام ومصر والعراقروحاً جديدة، لن تلبث إلا قليلاً حتى تكون خالصه لأصحابها، من دون الناس أجمعين!