مخرج التورية. وكان مولعاً - كما أعتقد - بمداعبة أدباء عصره، ومن مسالكه إلى تلك المداعبة أن يسطو على شعر أحد أنداده، فيسرق معانيه أو ألفاظه، أو يسلبه شيئاً منها، حتى يثيره ويهيج خاطره. وفي مقدمة هؤلاء الأنداد شاعر العصر وفحله الجمال بن نباتة المصري؛ فكان من جراء لك كله، أن شغل الصفدي أهل عصره وأثار ثائرة أدبائه، بل والأدباء من بعده. فألف فيه ابن نباتة كتابه (خبز الشعير) الذي جمع فيه سرقاته من شعره. وحمل عليه ابن حجة من بعده في خزانته، ونعى عليه جنونه بالجناس حتى ألف فيه كتابه (جنان الجناس). وأنشد ابن أبي حجلة المغربي يقول عن الصفدي وسرقاته مورياً:
إن ابن أيبك لم تزل سرقاته ... تأتي بكل قبيحة وقبيح
نسب المعاني في النسيم لنفسه ... جهلا فراح كلامه في الريح
وهكذا ترى بين قدامى النقاد من لا يرحمون الأديب، ولا يتكيسون في نقده، ولا يترفقون بسقطاته، ولا يعتذرون لغثه
على أن الصفدي، قد قدم المعذرة لنفسه بين يدي نقاده وقرائه، عما اجترح، فقال في مقدمة كتابه (ألحان السواجع) ما يلي:
(وليعذر الواقف على ما هو منحط العمل، غير راق إلى درجة الكمال بدره، ولم تشرق شمسه في الحمل؛ فإن فيه أشياء لم تهذبها الروية، وأعجلها الارتجال وألقاها الفكر من رأس القلم فجاءت فيه بُنَيَّاتالطريق لعدم الوصول إلى ربات الخدور والحجال
وليس يعاب المرء في يوم جبنه ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس)
هذا كله كلام يقال عن الصفدي إذا كان الحديث عن كتابته الفنية أو شعره. أما إذا كان الحديث عن كتابته في التاريخ ومؤلفاته فيه، فإن مسلك الكلام يتغير، ومجرى القول ينحرف. فالمؤرخ المكثار له جلاله وخطره. حقاً قد يسوق مثل هذا المؤرخ قارئه إلى شيء من الشك، يدفعه إلى حسن النظر ودقة التمحيص، كما قد يختلط في قوله، التافه والمرذول، بالنافع والمقبول. ولكنه، حتى في هذه يستطيع الباحث فيه والمعقب عليه أن يستنبط أموراً لها قوتها وقدرتها في مجال الاستدلال التاريخي.
وقد برز في العصر المملوكي جملة من كبار المؤرخين المكثرين الذين لم يقنعوا بالقليل، فوضعوا في تاريخ بلادهم وغيرها الموسوعات الجامعة. منها ما هو في التاريخ السياسي