أسرعت، ويهدأ إذا أبطأت، وتلهث أنفاسه لضيقها وكربتها، أو ينشرح صدره لبردها وسلامها، وتصطبغ نفسه بلونها قاتماً كان أو زاهياً.
لكل شيء عنده قيمة شعورية، وطاقة عاطفية، ومعنى باطني، فهو يعنيه النبض والدبيب لا الحجم والمساحة، هو يعي ألباب الأشياء وقلوبها قبل أن يعي أشكالها ومظاهرها. لا يكاد ينظر إلى الصور، وإنما يستقبل ما تلقى هذه الصور في نفسه من أحاسيس. . . ذلك أن البصيرة عنده أنفذ من البصر، والوجدان عنده أقوى من العين، وبهذا يمتاز الشاعر من المصور: ذاك تطغى عليه ملكة الشعور، وهذا تطغى عليه ملكة الملاحظة.
وحين ينزل الشاعر من عليائه ويلتفت إلى دنيا الواقع، ثم يتجه نحو سوق المجتمع، ويريد هناك أن يخالط الناس، ويتفهم الخلائق، ويدرس الحياة، إذن فسيهمل الشيء المبتذل، والشيء الأجوف، والشيء الرخيص. سيهمل في الحياة كل ما هو حشو. سيصغي ويرى ويلمس، ولكن هيهات أن يعلق بذهنه إلا كل طريف عميق، ولن يسجل من كل ما يجد حوله إلا الجدير بالتسجيل، ولن يقدم لنا في آخر الأمر إلا مشاهد فنية غريبة رائعة استطاعت أن تستأثر بوعيه وتستغرقه استغراق خياله السابق.
وألفونس دوديه بدأ بالأحلام، وإنا لنقرأ في الصفحات الأولى من قصة حياته المؤثرة (الشيء الصغير) كيف كان طفلاً رقيق العاطفة في (نيم)، يقضي نهاره في حديقة الار وفناء مصنع النسيج الذي أنشأه أبوه، متخيلاً أنه (روبنسون كروزو) في جزيرته، ثم كيف أحزنه فراق تلك الربوع عندما أفلس أبوه وهاجرت العائلة من المدينة. قال: (شهراً كاملاً، بينما كان أهل البيت يحزمون الأمتعة، كنت أتمشى حزيناً وحيداً في مصنعي العزيز. لم يكن قلبي لينصرف إلى اللعب في تلك الأيام كما تقدرون، لا، بل رحت أجلس في كل ركن، أنظر إلى الأشياء من حولي وأخاطبها كأني أخاطب أشخاصاً. . . وكانت في أقصى الحديقة شجرة رمان كبيرة قد تفتحت أزهارها الحمراء الجميلة للشمس، سألتها واحدة من أزهارها فأعطتني، ووضعت الزهرة في صدري تذكاراً لها. . . لقد كنت بائساً شقياً. . . ثم خرجنا. . . وكلما ابتعدت قافلتنا من البيت كانت شجرة الرمان تشرئب ما استطاعت فوق جدران الحديقة لتنظر إلينا وتنظر إليها قبل أن تغيب. . . وكانت الأشجار الأخرى تلوح لنا بأوراقها وتقرئنا الوداع. . . وكنت شديد التأثر أرسل إليهم في خلسة قبلات حارة