أرفع بصري إلى السماء، وأدير نظري في الكون لأشهد هذا الوداع. فما كنت أستطيع أن أرى شيئاً، فقد اختلط عليّ الأمل واليأس، كما يختلط قتام الليل بوضح النهار، وتساوى عندي الأمس واليوم، كما تساوى الماضي والمستقبل في عمر الدهر، وأحسست في نفسي فراغاً كبيراً ممتلئاً بكل شيء ويتسع لكل شيء. . . يتجاوب فيه كل صدى، وترن فيه كل نغمة. . . ثم تضيع فيه هذه الأشياء والأنغام والأصداء، كما تضيع هذه الأشعة في كهوف الأفق.
- ٦ -
إني لأفتح عيني الآن فلا أرى شيئاً، لقد امتزجت في أذني الأصوات المنبعثة عن حداء الزمن، وضحك الأمل، وصعقات العاصفة، كما اختلطت في عيني الأنوار المنبعثة من جوف الماضي وغياهب الآتي، وصفحات الحاضر. . . فما تغريني دقات الساعة لأن الزمن لم يعد شيئاً في حياتي، فقد أسفت للزمن، وما تبكيني الشجون، لأن اليقين قد طوى الألم، وما ينتابني القلق، لأن الإيمان يصرع الهواجس.
سأقتطف الزهرة الجديدة من قلب الصبي الناعم. . . وسأغرسها في رعاية الله وحنانه وبره، وستمتد يدي من جديد لتصافح ملائكة السمو والمجد، وسأحمل المصباح، يستمد نوره من الإيمان واليقين، وسأنشد الغاية رضى النفس، وسأقطف الثمرة، تباركها يد الله، وأحقق الهدف يهدي إليه نور الله. . .
في طرف الأفق، كانت تُغيب الأرض غلالة النور وفي كبد الجو كانت تطلع السماء أنوار النجوم، وتبعث شعاعاتها المهتزة على الأرض المكروبة، تبشرها بالنور الطالع والفجر القريب، وفي الحاشية البعيدة، كان يرقص خط دائر من النور. لقد طلع الهلال، وولد العام، فعاشت معه آمال، وانتعشت أماني وضحكت نفوس.