حتى أحس معانيه تنساب إلى نفسي انسيابا، وإذا أنا أدامجه وأسايره بعاطفتي وشعوري؛ ذلك لأن الموضوعات التي يعالجها كانت تشغل بالنا، ولم يكن جمهور (حافظ) من المثقفين خاصة، وإنما كان خليطا من طبقات الشعب، يفهمون عنه، ويتأثرون به، ويصفقون له في صدق وإيمان. ولست أنسى حفلا شعبياً شهدته في (حديقة الأزبكية) لذلك العهد، فأنشد فيه (حافظ) إحدى روائعه، وكان بين جمهور السامعين كثير من ذوي الجلابيب، وهم يطربون للشعر، ويهتاجون بالإنشاد، ويتصايحون في تهلل وإعجاب.
وإليك ما عرفت من شأن (طاغور) وجمهور، فقد كانت حلقته التي ينشد فيها أشعاره تحفل بالحشد الوافر من جمهور الشعب غير المثقف، وبينهم الحفاة العراة المهازيل، وكان أولئك يصغون إلى (طاغور) مرتلاً شعره، وكأنهم في معبد يشتركون في صلاة، وأعينهم تفيض من الدمع تأثراً واستجابة، وكذلك استطاع هذا الجمهور الساذج أن يستشعر الجمال والروعة في قصائد بالغة من السمو الفني والفلسفي أرفع الدرجات، وإنما تسنى للجمهور أن يساير أدب (طاغور) بثلاث: الأولى أن الشاعر يتناول من الموضوعات ما يشغل بال الناس، وما يحسونه في صميم قلوبهم أوفر إحساس، فهم حين يصغون إلى الشاعر فإنما يصغون إلى زفرات نفوسهم وأصداء عواطفهم صادقة الوحي والإلهام. والثانية أن قصائد (طاغور) أقرب في أسلوبها وجرسها إلى النغمة الموسيقية منها إلى ألفاظ تتألف من حروف. والثالثة أن (طاغور) كان يلتقي شعره فيحسبه السامع مغنيا يترنم. وثمة ناحية رابعة ليس من الخير إغفالها، تلك هي أن فلسفة (طاغور) التي ينطوي عليها شعره أدنى إلى التصوف والتعبد منها إلى فلسفة المذاهب والاراء، والإنسان صوفي بالفطرة، متعبد بالطبع، ولم تكن هذه المعاني التي يجلوها (طاغور) في فلسفته الصوفية إلا معاني إنسانية كامنة في النفس البشرية، فلا هي بجديدة على الإنسان ولا هي بمستغلقة عليه، بل هي في سريرته مستخفية تلتمس من يثيرها من الأعماق.
لسائل أن يقول: أفي المستطاع أن يتذوق جمهورنا العربي من فن (طاغور) ما يتذوقه جمهوره؟.
لا سداد في الإجابة عن هذا السؤال بنفس أو إيجاب، فإن كثيراً من الألوان الأدبية، وبخاصة الشعر، لا يكاد يسوغ إذا نقل إلى لغة غير لغته لأنه يفقد بالترجمة خصائص وقعه