الموسيقى وكيانه الفني، ولا تبقى منه إلا ظلال وأشباح أو هياكل معروفة من عظام. ولو كان في المقدور أن يترحم أدب (طاغور) رنانا بموسيقيته الفنية، رفافا بصوفيته الإنسانية، لكان حريا أن يتأثر به الجمهور الكبير حيث يكون.
وهذا (شكسبير) الشاعر العبقري الذي نقرأ له اليوم في إمعان وروية، محاولين استشفاف الغامض من معانيه، والدقيق من تأملاته وتحليلاته النفسية. لقد كانت مسرحياته تمثل على أعين الناظرة من عامة الشعب، كانوا أمشاجاً من الناس يتباينون في مراتب الثقافة والذوق، ولكنهم استساغوا من فن (شكسبير) ما يساير عواطفهم وما يلائم مزاجهم، واستمرءوا ما كان يمازحهم به من مفارقات الحياة وأضاحيك المجتمع، في سخرية لاذعة، ونقد طريف؛ وما كان يهزهم به من صور المآسي والفواجع، في لوعة مريرة، وتحس أليم. فالشعب في ذلك كله مستجيب له أعمق استجابة، فتارة هو واجد حزين، وطورا هو مستمتع طروب.
على الأديب الفنان الذي يرى أدبه محجوبا عن الجمهور، فيسئ الظن بهم، ويسرع إلى وهمه أن الناس لا يستطيعون التلقي عنه، عليه أن يسأل نفسه: أموصول هو حقا بالشعب يعبر عن خوالجه، ويصور منازعه؟ فإن كان كذلك حقا فليسأل نفسه ثانية: هل ابتغي الوسيلة التي يتسنى بها للجمهور الإقبال على أدبه؟ وإن في الجواب عن هذا السؤال جانباً خطيراً من سر العلاقة بين الفنان الكاتب والجمهور القارئ.
وليس بعازب عنا عقم الوسائل التي تتأدى بها الكتب الأدبية إلى أيدي الشعب، فإن هذه الكتب لا تكاد تصل إلى الناس إلا بجهد، فالكاتب والقارئ كلاهما يلقي من ذلك إعناناً ورهقاً. وفي مقدورك أن تعزو العزلة التي يعانيها الأدب الفني إلى أن الجمهور يجهل وجدوده، وأنه لا يجد تنبيهاً إليه، وربما وجد سبيله غير ميسور؛ فللجمهور عذر مبسوط فيما نلاحظ من ضعف إقباله على الأعمال الفنية التي ينهض بها الأدباء.
وفي هذا المقام يطيب لي أن أشير إلى أن إحدى الفرق التمثيلية ضاقت بما تجد من تراخي الجمهور عما تقدمه من مسرحيات فنية أصيلة، وكانت تعلل ذلك بادئاً بأن الجمهور لا يسمو إلى هذا المستوى الرفيع. وأخيرا خطر للقائمين على تلك الفرقة أن يلتمسوا بعض السبل إلى اجتذاب الناس، فخفضوا أسعار الدخول حتى قاربوا بها أسعار الدخول في الدور السينمائية، وبسطوا لطلاب المعاهد وأساتذتها شيئا من الامتياز في الخفض، فازدحم