ويأنف ويستكين، ويثور ويهدأ، ويسخط ويرضى، ويتدلل ويتذلل، ويتحمس ويتغزل، كأنه في تعاقب ذلك كله عليه الأوتار الطيعة تحت الأنامل اللينة البارعة، فيملأ الآذان بالنغم، والأذهان بالفكر، والقلوب بالشوق، والمشاعر باللذة
ذهبت ليلة الأمس على عادتي أرود المعاهد، وأجوس الديار، وأستنشي ما بقي على أطراف الزمن من عبير الفاطميين، فوجدت القاهرة الشرقية لا تزال تتحدى القاهرة الغربية بمساجدها ومدارسها ومستشفياتها وخاناتها وحماماتها وأسواقها، وتعلن بشهادة هذه الآثار أن حضارتها العربية الخالصة إنما كانت تقوم على الدين والعلم والمدنية والإنسانية والعمل، وتزعم بأدلة الاختبار أن هذا المظهر الحسي القوي الرائع الذي يميز حضارة الغرب من حضارة الشرق إنما يرجع إلى أن هذه تقوم على الروح، وتلك تقوم على الآلة، وهذه تصدر عن العاطفة والإيثار، وتلك تصدر عن المنفعة والأثرة؛ والميزة التي ينبغي أن تكون لحضارة على حضارة إنما هي ضمانة السعادة للناس، وتحقيق السلام للعالم
ولكن أين صديقي الشاعر، وأين أخوه القصاص! هذا هو الحي، وهذه هي القهوة، وهؤلاء هم الناس، ولكني وجدت في مكان الأريكة المنجدة، والحلة المفوفة، والعمامة الفردة، صندوقاً من الخشب، دقيق الصنع، أنيق الشكل، قد علق بالحائط، فأغنى غناء القصاص، وأبلى بلاء الشاعر!!
تركت هذه القهوة ومضيت أتحسس في زوايا الحي وحنايا السوامر ذلك الصوت الذي كان ينبعث من جوف الماضي السحيق شادياً بالمجد والنبل والبطولة، فلم أجد له - وا أسفاه - جرساً ولا صدى!!
لقد هزم الراديو الشاعر في كل قهوة، كما هزمت الآلة الإنسان في كل عمل! ففي كل مقهى من هذه المقاهي (البلدية) آلة من هذا الاختراع العجيب تغري الأذواق العامية بالفن، وتروض الآذان العصية على الموسيقى، وتنبه العقول الغافلة إلى العلم، وتحبب النفوس المستهترة في الأدب؛ فهي تقرأ القرآن، وترسل الألحان، وتذيع العلم، وتشيع اللهو، وتنشر البهجة! ولكني مع ذلك عظيم الأسف على موت القصاص، شديد الأسى على فقد الشاعر!
فإن مخاطر الشهامة (لأبي زيد)، ومواقع البطولة (لعنترة)، ومواقف النبل (لسيف بن ذي يزن)، أصلح لتهذيب العامة فيما أظن مما يبثه المذياع كل يوم من النوادر الوضيعة،