للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الواحد فتى حلواً جميلاً ولكنه على حلاوته وجماله أمضى من السيف الباتر، وكان اسمه (سلامه) فتفاءلنا به خيراً. وكان صلى الله عليه وسلم يتفاءل، وقلت: رافقتنا السلامة إن شاء الله، والحاج غراب صامت لا ينطق. . .

وودعنا القوم الكرام وسرنا نخرق صدر البادية المهولة وأرواحنا معلقة بيد سلامة، وسلامة يشير إلى السائق ويلقي عليه أوامره؛ يمين. شمال. أصعد التل. تجنب الرملة. والسائق يسمع ويطيع، والسيارات تتغلغل بين هذه التلال، ولبثنا على ذلك إلى العصر، عصر اليوم الثاني من أيام الرحلة، فرأينا رملة بيضاء فسيحة لها منظر البحر في سعته وتموجه واستوائه، تملأ العين جمالاً والقلب من خوف سلوكها فزعاً، يلوح من ورائها سواد قليل كأنه النخيل أو خيال البنيان. فقال سلامه سلّمه الله: (هذه هي القريات)

والرمال التي رأيناها في البادية على نوعين: رمال منبسطة بيضاء دقيقة كالغبار، لا طية بالأرض، يتخللها نبات من نبات الصحراء (وسأصف فيما يأتي من الحديث أنواعاً منها خبرناها) ورمال حمراء حباتها أكبر، وامتدادها أكثر، وهي تلال يأخذ بعضها بأعقاب بعض، تشبهها العين بأمواج البحر، لو كانت تجمد أمواج البحر، وإذا أنت تأملتها وجدتها في حركة دائمة لا تستقر حباتها، وبذلك ينتقل التل العظيم من مكان إلى مكان في الشهر مرة أو الشهرين، ولقد رأينا في عودتنا مناطق كانت سهلة ما فيها حبة رمل، فصارت بعدنا آكاما من الرمال

وهذه الرمال آفة السيارة، وعلتها التي لا دواء لها، فأنها للينها وتهافتها لا تثبت تحت دواليب السيارة، فتغص فيها كما تغوص في الماء، وتلبث فيها كأنما دفنت وهي في الحياة

ولقد لقينا من هذه الرملة عناء تقل في وصفه مبالغات الشعراء. . . غرقت فيها السيارات، ومالها لا تغرق وقد قلت لك إنها رملة كالبحر، أفتمشي سيارة على وجه البحر؟ ولقد لبثنا إلى الليل نزيح الرمل من حول السيارة، ونرفعها رفعاً، ثم ندفعها بعواتقنا دفعاً، ثم نجرها بالحبال، حتى إذا قلنا سارت عادت فغاصت، فلم نقطع الرملة حتى تقطعت أعمارنا، ولم نخرج منها حتى شهدنا أنه لا إله إلا الله!

وقريات الملح قرى ست متقاربة أكبرها قرية (كاف)، ولكنها لا تحوي على نصف سكان (حلبون) أخس قرى الشام ولا تبلغها كبراً وأتساعاً، وهي في غور الأرض، وكان أول ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>