وكذا. فقال: لا تشغلنا الساعة عن المحادثة وتعرف أخبارنا. . . إذا كان في غد وجّهت إليك بهذا الكتاب، فلما كان من الغد وجّه إلي بالكتاب، فقلت لابني: وجّه بهذا الكتاب إلى فلان ففيه حاجته. فقال لي: إن أبا عثمان بعيد الغور، فينبغي أن نفضه وننظر ما فيه. ففعل فإذا فيه: كتابي إليك مع من لا أعرفه، فقد كلمني فيه من أوجب حقه؛ فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذممك. فلما قرأت الكتاب مضيت إلى الجاحظ من فوري. فقال: يا أبا عبد الله قد علمت أنك أنكرت ما في الكتاب. فقلت: أو ليس موضع نكرة؟ فقال: لا، هذه علاقة بيني وبين الرجل فيمن أعتني به. فقلت: لا إله إلا الله ما رأيت أحداً أعلم بطبعك ولا بما جبلت عليه من هذا الرجل. . . علمت أنه لما قرأ الكتاب قال أمُّ الجاحظ عشرة آلاف في عشرة آلاف، أم من يسأله حاجة. فقلت يا هذا تشتم صديقنا؟ فقال هذه علامتي فيمن أشكره!)
ولم يكن الجاحظ يكتفي بمداعبته أبي العيناء على هذا النمط فإنه كان أحياناً ما يعذبه واجداً في تعذيبه ارتياحاً غامضاً في نفسه (كان الجاحظ يتقلد في خلافة إبراهيم بن العباس على ديوان الرسائل، فلما جاء إلى الديوان جاءه أبو العيناء. فلما أراد أن يخرج من عنده تقدم إلى من يحجبه أن لا يدعه يخرج ولا يدعه يرجع إليه إن أراد الرجوع. فخرج أبو العيناء يريد الانصراف فمنع من الخروج ومن الرجوع إلى الجاحظ، فنادى أبو العيناء بأعلى صوته: يا أبا عثمان قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك!)
ومثل هذا النمط من التعذيب في المداعبة كثيراً ما نجده بين المتفاهمين من الأصدقاء. وكان من أشد هؤلاء صلة بأبي العيناء محمد بن مكرم والعباس بن رستم اللذان سئل عنهما مرة فقال: هما الخمر والميسر، إثمهما أكبر من نفعهما. وأكبر الظن أن صلته بابن مكرم كانت أقوى، لأن مداعباته له كثيرة مشهورة.
وابن مكرم كان من هذا النوع من الأصدقاء الذي يحب أن يجد السرور لنفسه ولو بالتهكم على صديقه - وما أكثرهم في كل زمان ومكان - وكان يرى في عمى أبي العيناء فرصة لإيذائه لا رغبة في الإيذاء نفسه فلا حاجة به إليه، ولكن ليستمتع بردود أبي العيناء المبتكرة، وأجوبته اللاذعة.
حضره يوماً وأخذ يؤذيه ثم قال: الساعة والله أنصرف فقال: أبو العيناء ما رأيت من يتهدد