وقال له يوماً يعرض بالبلد الذي نشأ فيه: كم عدد المكدين (المتسولين) بالبصرة؟ قال: مثل عدد البنائين ببغداد. فأجابه بأشد من تعريضه.
وأبو العيناء من طرائفه مع ابن مكرم يسعى إلى إيلامه برده، بمقدار تألمه من هزله وجده، وهو إذا أراد أن يرسل الجواب لا يمنعه منه مانع، ولا يصده عنا صاد، لأنه يرى أن الحرية في الدفاع أجدر من الحرية في الهجوم!
ومهما اختلف الباحثون في تحليل نفسية هذا الظريف فستحملهم النصوص الكثيرة على الاتفاق على رقة دينه، إذ كان يتعرض للدين في مختلف المناسبات غامزاً لا يعبأ ولا يبالي. قال له العباس بن رستم يوماً:(أنا أكفر منك. فقال له: لأنك تكفر ومعك خفير مثل عبيد الله بن يحيى وابن أبي دؤادوأنا أكفر بلا خفارة).
وأنا لا أصدق أن هذا من التظرف في شيء، إذ ما كان ليعترف بأنه يكفر بلا خفارة إلا لرقة دينه، وإن قوى الدين لا تسمح له نفسه أن يتظرف بشيء يتنافى مع الأدب في اعتقاده، بل يرى أن كل شيء يباح له الخوض فيه إلا الدين، فإن له حرمة لا يحل مسها لمخلوق. أما صاحبنا فيرى من الظرف والكياسة أن يتظاهر بمخالفة الدين. قال مرة:(أنا أول من أظهر العقوق في البصرة. قال لي أبي: يا بني، إن الله تعالى قرن طاعته بطاعتي، فقال: (أشكر لي ولوالديك) فقلت له: يا أبت إن الله ائتمنني عليك ولم يأتمنك عليَّ، فقال تعالى:(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق).
وقد كتب أبو العيناء إلى صديق له ولي ولاية موعظة عجيبة أعتبرها وثيقة على ضعف دينه. واقرأ إذا شئت ما كتب (أما بعد فإني لا أعظك بموعظة الله لأنك عنها غني، ولا أخوفك إياه لأنك أعلم به مني، ولكني أقول كما قال الأول:
أحار ابن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذاً منها تخون وتسرق
وأعلم أن الخيانة فطنة، والأمانة حرفة، والجمع كيس، والمنع صرامة؛ وليس كل يوم ولاية، فاذكر أيام العطلة. ولا تحقرن صغيراً، فإن الدور إلى الدور، وإبلاء الولاية رقدة؛ فتنبه قبل أن تنبه. وأخو السلطان أعمى عن قليل سوف يبصر. وما هذه الوصية التي