للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أوصى بها يعقوب بنيه؛ ولكن رأيت الحزم في أخذ العاجل، وترك الآجل).

وهكذا خلط أبو العيناء في هذه الموعظة العجيب أسلوبها كثيراً من الهزل في الجد، فما أحب لصاحبه الأمانة لأنها حرفة الخازنين، ولا كره لصاحبه الخيانة لأنها فطنة وذكاء، وما أحب له أن يجود بماله لأن في المنع صرامة وحزماً، ولا كره له أن يجمع القناطير المقنطرة لأن في كنزها أبهة وفخراً. فلينتهز فرصة ولايته فإنها لا تسنح دائماً، وليكسب ما استطاع من الغنائم ليكون حكيما حازماً، وليضم الصغير مع الكبير، وليلق القليل على الكثير، وليجمع الفتيل والقطمير، وليفتح عينيه على كل شيء دق أوجل، فربما تعطل بعد عمل، وربما أفل نجمه بعد أمل. أما الآخرة فنعيمها آجل بعيد، أين منه نعيم الدنيا القريب؟

أفرأيت أعجب من هذه الموعظة، وأغرب من هذه الوصية؟

أما إنها - على مسحة الهزل فيها - لدعوة صارخة إلى اجتياز حدود الدين التي تضع سداً بين واجب الإنسان وطمعه، وبين مسئوليته وجشعه، وتسلك به سبيل الزهد عن ظهر غنى، والعفاف على قوة وقدرة. فما كان أضعف دينك يا أبا العيناء! وما كان أشد تساهلك أيها الراوية الظريف!!. . .

- ٦ -

وإذا أضفنا إلى انحلال تدينه سفاهة لسانه بطبعه وهجيراه أصبح واضحاً لدينا أنه كان متهالكا على إرضاء هواه وإشباع شهوته، وأنه ما كان ليتورع عن الخروج على أصلح التقاليد بنفسه بعد أن خرج عليها بتعبير لسانه، لأن عفيف النفس يأبى على ألفاظه أن تكون نابية؛ أما وقد ترك صاحبنا نفسه على سجيتها فلا بدع إذا كان خبيث اللسان؛ ثم لا غرو إذا كان خبيث العمل، ثم لا عجب إذا وصمه الناس بأنه مخنث، حتى قال له ابن الجهم يوماً: يا مخنث! فأجاب: (وضَرب لنا مثلاً ونسيَ خَلقه).

ولا يعنيني هنا أن أستمتع برده فما أنتظر من مثله غيره أو أقل منه، ولكني أشير إلى أن للناس فيما أطلقوا عليه من أوصاف ما جرأهم من أعماله وتصرفاته. وهذا - على ما أعتقد - من الأسباب الجوهرية التي جعلت حفاظ الحديث يحكمون بضعف ما رواه هذا الظريف، بل إن بعضهم قد رماه بالكذب والوضع؛ فالخطيب في تاريخه - بعد أن ذكر الذين رووا عنه: وهم أحمد ابن عيسى المكي، وأبو عبد الله الحكيمي، ومحمد بن يحيى الصولي،

<<  <  ج:
ص:  >  >>