إلى ما تحويه حلب في حاضرها من بناء قديم يرى المستشرق أنه أقدم ما بقي في سورية من الآثار، حتى أنه اكتشف على أحد جدران المباني كتابة هيروغليفية يعود تاريخها إلى ألفي سنة سلفت.
ولم يقف عند هذا حتى كتب رسالة للدكتوراه درس فيها تطور البناء في حلب على مدى الأجيال. فعرض للمدينة في عهد اليونان والرومان والعرب؛ وتوجت هذه الرسالة بكثير من الثناء، وهتف المستشرقون للدارس الباحث، وقد قضى شطراّ من عمره في بلد الشام يتقرب إلى تاريخه، ويتفهم ماضيه العمراني. ونشرت الرسالة في جزأين كبيرين أولهما في دراسة هذه المدينة والثاني في المصورات والصور التي تتحدث - على عادة الغربيين - عن ماض قديم قربه الرجل أوفر الرجل ما يستطيع عالم أن يفعل.
ولما سكن سوفاجه دمشق كتب كذلك عن أبنيتها وحاول أن يصنع لها ما يضع لشقيقها حلب، ونشر بحثاً وبحوثاً عن الأبنية في دمشق على عهد الأيوبيين.
وتابع دراساته، وواصل نشر كتبه حتى بلغت العشرين، فنقل رمن الربوع التي أحبها، وعاش بين جدرانها، إلى باريس وعين أستاذاً في (الكوليبح دفرانس) وهي مرتبة لا يبلغها إلا الصابرون المجاهدون من العلماء في فرنسة وعين كذلك مديراً للدراسات العليا في التاريخ الإسلامي بالسوربون. ولم تحبسه محاضراته وواجباته الجامعية عن متابعة التأليف والترجمة، فنشر كتابا بالفرنسية يعد أقوى مرجع في التعرف إلى (مصادر التاريخ الإسلامي) ذكر فيه الكتب العربية والغربية المخطوطة والمطبوعة التي تبحث في تاريخ الإسلام. ثم نشر كتاباً عن أخبار الصين والهند بالعربية وترجمة إلى الفرنسية. وأرسل إلى المطبعة منذ شهور ترجمة لأحد مؤرخي حلب في القديم. والكتاب ما يزال في سبيله إلى النور، بينما كان مترجمة يقاسي غصص الموت ويتوجه إلى الخلود.
وكأني بالعالم المؤرخ - وهو يبلغ الخمسين من عمره - قد أنهكه الدرس وحطمة الجهد، وأخذت منه المؤلفات ما أخذت من عباقرة الباحثين فنال منه المرض، ولم يثنه نصح الأطباء ورفق الأصدقاء حتى اختطفه الموت وهو يترجم ويصحح كتبه عن الشام والمسلمين، فقضى (وملازم المطبعة) بين يديه وترجمة التاريخ الإسلامي تحت وسادته، وأغمض عينيه على مصور الشام الذي صنع يزين غرفته وهو أشد ما يكون اطمئناناً إلى