قوله:(بعيدة مهوى القرط)، إنما صار شعراً لأنه استعمله بدل قوله:(طويلة العنق) وكذلك قول الآخر:
يا دار أين ظباؤك اللعس، ... قد كان لي في إنسها أُنس
إنما صار شعراً لأنه أقام الدار مقام الناطق وأبدل لفظ النساء بالظباء، وأتى بموافقة الأنس والأُنس. وأنت إذا تأملت الأشعار المحركة وجدتها بهذه الحال، وما عدا هذه التغييرات فليس فيه من معنى الشاعرية إلا الوزن فقط، والتغييرات إنما تكون بجميع الأنواع التي تسمى عندنا مجازاً، والفاضل من هذه الأشياء أن يستعمل من كل واحد منها ما هو أبين وأظهر وأنبه، وهذا لا يوجد إلا في النادر من الشعراء لأنه دليل المهارة.
وقد أتى المترجم على نموذج من نماذج قصائد المديح، يريد أن يحلل الأجزاء التي تتركب منها القصيدة، فأرجع تأليفها - عند العرب - إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول الذي يجرى عندهم مجرى الصدر في الخطبة كذكر الديار والتغزل، والجزء المبنى على المديح، والجزء الذي يجرى مجرى الخاتمة في الخطبة. وهذا إما دعاء للممدوح أو تقريظ للشعر الذي قاله. والجزء الأول أشهر من هذا الآخر، ولذلك يسمون الانتقال إلى الثاني استطراداً، وربما أتوا بالجزء الثاني دون الجزء الأول كقول أبى تمام:(لهان علينا أن نقول ونفعلا)
أو قول أبى الطيب:(لكل امرئ من دهره ما تعوّدا) ويرى خير المدائح المدائح التي يوجد فيها التركيب أي ذكر الفضائل والأشياء المحزنة المخوفة والمرققة. . . وكأني بابن رشد لم يفصل هذه الأشياء لأن العرب لا يمزجون الأشياء المحزنة المخوفة والمرققة بمدائحهم. . . وإنما هي من صفات الشعر اليوناني (وبخاصة الأوميروسي). ثم أنتقل إلى ذاكرة الخرافة، والخرافة تكاد تغلب على الأشعار اليونانية. . . ولكن أرسطو يرى أن الخرافة ينبغي أن يكون مخرجها مخرج ما يقع تحت البصر، لأنه إذا كانت الخرافة مشكوكاً فيها لم تفعل الفعل المقصود بها، وذلك أن ما لا يصدقه المرء فهو لا يفزع منه ولا يشفق له، وفي هذا سر عميق من أسرار الإبداع، إذ ليس الشاعر من أغرب وأعجب، وليس الشعر بالشعر الأذهب في الغرابة والتخيل البعيد عن الصدق كما يذهب إليه بعض الشعراء. والشاعر الموهوب قد يتناول ما بين يديك، ويدخل في عالم نفسك، ثم يحدثك بما تعرفه وتحسب انك لا تعرفه. . . لأنه أدرك بتعمقه وتأمله أشياء منك لم تدركها بنظراتك