قال: وكان أخي هو زعيم هؤلاء الطلبة في مدنيتنا؛ قويٌّ على الزَّعامة وفيٌّ بها، يحمل قلباً كالجمرة الملتهبة وله صوت بعيد تحسب الرعد يُقَعْقع به. إذا مشى في جهاده كان كل ما على الأرض تراباً تحت قدميه فلا يمشي إلا محتقراً هذه الدنيا وما فيها، غير مقدّس منها إلا دينه ووطنه. وسلاحه أن كل شيء فيه هو سلاح على الظلم وضد الظلم.
وكان في ذلك اليوم يقود (المظاهرة) وحوله جماعة من خالصته وصفوة إخوانه يمشون في الطليعة تحت جو متَّقد كأن فيه غضب الشباب، عنيفٍ كأنما امتزج به السخط الذي يفورون به، رهيب كأنه مُتهيئ لينفجر فلما بلغوا موضعاً من الطريق ينعطفون عنده انصبَّ عليهم المدفع الرشاش. . . .
قال: فإني لجالس بعد ذلك في الديوان إذ دخل علي أخي هذا ينتفض غضباً كأن المعاني تنبعث من جسده لتقاتل، ورأيت له عينين ينظر الناظر فيهما إلى النار التي في قلبه، فخشيت أن يكون القوم أطلقوا عليهم الجنون والرصاص معاً.
واستنبأته خبر أصحابه فقال: إن الذين كانوا حوله وقعوا يتشَحَّطون في دمائهم فوقف هو شاخصاً إليهم كأنه ميت معهم وقد أحسَّ كأنما خلع عن جسمه نواميس الطبيعة فلا يعرف ما هي الحياة ولا ما هو الموت. وكان الرصاص يتطاير من حوله كأن أرواح الشهداء تتلقاه وتبعثره كيلا يناله بسوء. قال: وما أَنس لا أنس ما رأيته في تلك الساعة بين الدنيا والآخرة؛ فلقد رأيت بعيني رأسي الدم المصري يسلّم على الدم المصري ويسعى إليه فيعانقه عناق الأحباب.
ثم قال: أين هذا الباشا وما باله لم يصنع شيئاً في الاحتياط لهذه الفَوْرة؟ يكاد الخزي والله يكون في هذه الوظائف على مقدار المرتب. . . .
قال صاحب السرّ: ولم يتم كلمته حتى خرج علينا الباشا متكسر الوجه من الحزن وقد تغرغرت عيناه فأخذ بيد أخي إلى غرفته وتبعتهما قم قال: هَوْناً ما يا بني، إن العلة فيكم أنتم يا شباب الأمة، فكل ما ابتلينا أو نُبتلى به هو مما يستدعيه خمولكم وتستوجبه أخلاقكم المتخاذلة. إننا من غيركم كالمدافع الفارغة من ذخيرتها لا تصلح إلا شكلا، وبهذه العلة كان عندنا شكل الحكومة لا الحكومة.
أتدري يا فتى ما هي الحكومة الصحيحة في مثل حالتنا؟ هي أن تحكموا أنتم في الشعب