للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من صفحات التاريخ. . .

لقد عرف الرافعي من يومئذ أن عليه رسالة يؤديها إلى أدباء الجيل، وأن له غاية أخرى هو عليها أقدر وبها أجدر؛ فجعل الهدف الذي يسعى إليه أن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه، يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال، وأن ينفخ في هذه اللغة روحاً من روحه يردُّها إلى مكانها ويردّ عنها، فلا يجترئ عليها مجترئ ولا ينال منها نائل ولا يتندر بها ساخر إلا انبرى له يبدد أوهامه ويكشف عن دخيلته.

ونظر فيما يكتب الكُتاب في الجرائد، وما يتحدث به الناس في المجالس، فرأى عربية ليست من العربية، هي عامية متفاصحة، أو عجمة مستعربة، تحاول أن تفرض نفسها لغة على أقلام المتأدبين وألسنتهم، فقر في نفسه أن هذه اللغة لن تعود إلى ماضيها المجيد حتى تعود (الجملة القرآنية) إلى مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء، وما يستطيع كاتب أن يشحذ قلمه لذاك إلا أن يتزود له زاده من الأدب القديم.

وعاد الرافعي يقرأ من جديد، ينظر فيما كتب الكتاب وأنشأ المنشئون في مختلف عصور العربية؛ يبحث عن التعبير الجميل والعبارة المنتقاة واللفظ الجزل والكلمة النادرة، ليضيفها إلى قاموسه المحيط ومعجمه الوافي، فتكون له عوناً على ما ينشئ من الأدب الجديد الذي يريد أن يحتذيه أدباء العربية.

هذا سبب مما عدل بالرافعي عن مذهبه في الشعر إلى مذهبه الجديد في الأدب والإنشاء. وثمة سبب آخر كان الرافعي يصرح به كثيراً لمن يعرفه: ذلك أنه كان يرى في الشعر العربي قيوداً لا تتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن نفسه الشاعرة. هكذا كان يقول هو، وأقول أنا: إنه كان يعجز أن يصب في قصيدة من الشعر ما كان يستطيع أن يكتبه في سهولة ويسر مقالاً من مقالاته الشعرية الرائعة التي يعرفها قراء العربية فيما قرءوا للرافعي. والحق أن الرافعي بطبعه شاعر في الصف الأول من الشعراء، لا أعني الشعر المنظوم، فذلك ميدان سبقه فيه كثير من شعراء العصر، بل أعني الشعر الذي هو التعبير الجميل عن خلجات النفس وخطرات القلب ووحي الوجدان ووثبات الروح. ولقد كان - رحمه الله - بما فيه من اعتداد بالنفس، يكتب المقال الفني المصنوع فيقيس لفظه بمعناه ويربط أوله بآخره ويجمع بين أطرافه كل ما ينبض به قلبه من معاني السرور

<<  <  ج:
ص:  >  >>