والألم، والرجاء واليأس، والرغبة والحرمان؛ فإذا فرغ من إنشائه جلس يترنم به ويعيده على سمعه الباطن، ثم لا يلبث أن يلتفت إلى جليسه قائلاً:(أسمعت هذا الشعر؟ أرأيت شاعراً في العربية يملك من قوة البيان ما يجمع به كل هذه المعاني في قصيدة منظومة. . .؟)
هذه العبارة التي كان يسمعها جلساء الرافعي كثيراً، تفسر لنا قول الرافعي إن في الشعر العربي قيوداً لا تُتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن نفسه الشاعرة، أو تؤيد ما أدعيه أنا، من أنه كان يشعر بالعجز عن الإبانة عن كل خواطره الشعرية في قصيدة من المنظوم ولا يعجزه البيان في المنثور. نعم، كان شعر الرافعي أقوى من أداته، وكانت قوالبه الشعرية تضيق عن شعوره. . .
افترى في العربية شاعراً يستطيع أن ينظم ورقة واحدة من (أوراق الورد) في قصيدة منظومة دون أن يتحيف المعنى ويختل الميزان؟
لا أحسب أن الرافعي كان يعني ما يقول حين يزعم أن القيود في الشعر العربي من أسباب الضعف في الشعر؛ فهو نفسه لم يكن يستطيع أن يجهر بهذا الرأي، بل أحسبه في بعض نقداته الأدبية أنكر مثل هذا القول على بعض الأدباء وراح يتهمه بمحاولة الغض من قدر الشعر في العربية؛ فما أراه كان يقول ذلك إلا تعبيراً عن معنىً تأبى كبرياؤه الأدبية أن يصرح به.
ذلك هو السبب الثاني الذي عدل بالرافعي عن الاستمرار في قرض الشعر معنياً به مقصوراً عليه.
لم يهجر الرافعي الشعر هجراً باتاً بعد أن اتخذ لنفسه هذا المذهب الجديد، ولكنه لم يجعل إليه كل همهه، واتجه بقلبه ولسانه إلى الهدف الجديد، فلا يقول الشعر إلا بين الفينة والفينة إذا دعته داعية من دواعي النفس أو من دواعي الاجتماع. وسنرى فيما سيأتي بعد، أنه قد صبا إلى الشعر ثانية عندما مس الحب قلبه واتقدت جذوته في أعصابه سنة ١٩٢٣، فدعته نفسه؛ وعندما اتصل ببلاط الملك فؤاد - رحمه الله - سنة ١٩٢٦، فدعته داعية الجماعة.
حديث القمر
قلت إن الرافعي بطبعه كان شاعراً، ولكن شعره كان أقوى من أداته، وكانت قوالبه الشعرية