تضيق عن شعوره فنزع إلى النثر الفني. وقلت إنه كان يرمي إلى أن يعيد (الجملة القرآنية) إلى مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء لتعود اللغة على أولها فصيحة جزلة مبينة، وإنه أخذ على نفسه أن يكون نموذجاً في هذا الأدب الجيد يحتذيه أدباء العربية. وقدمت في المقال السابق أن الرافعي كان على نية إصدار كتاب مدرسي سماه (ملكة الإنشاء) يكون عوناً للمتأدبين وطلاب المدارس على الاقتباس لإجادة الإنشاء. فكل أولئك ما دفعه إلى إصدار كتابه (حديث القمر) من بعد
كتاب (حديث القمر) هو أول ما نشر الرافعي من أدب الإنشاء؛ أصدره بعد كتابيه: تاريخ آداب العرب، وإعجاز القرآن. وما بي أن أصف حديث القمر لقراء العربية، فهو مشهور متداول، وهو ضرب من النثر الشعري، أو الشعر النثري؛ يصف من عواطف الشباب وخواطر العاشق وما إليهما في أسلوب فني مصنوع أحسبه لا يطرب الناشئين من قراء العربية في هذه الأيام، إلا أن يقرءوه على أنه زاد من اللغة، وذخر من التعبير الجميل، ومادة لتوليد المعاني وتشقيق الكلام في لفظ جزل وأسلوب بليغ
ومن هذا الكتاب كانت أول التهمة للرافعي بالغموض والإبهام واستغلاق المعنى عند فريق من المتأدبين؛ ومنه كان أول زادي وزاد فريق كبير من القراء الذين نشأوا على غرار في الأدب لا يعرفه ناشئة المتأدبين اليوم
شيوخه في الأدب
أما إذ وصلت إلى هذا المكان من تاريخ الرافعي فإني أسأل نفسي: عمن أخذ الرافعي هذا المذهب في الكتابة، وبمن تأثر من كتاب العربية القُدامى والمحدثين؟
هذا سؤال لا أجد جوابه فيما حدثني به الرافعي أو أحد من أهله وصحابته؛ وما أستطيع أن أثبت شيئاً في هذا المقام يعتمد عليه الباحث. واكبر ظني أن الرافعي نفسه كان لا يعرف أستاذ في الأدب والإنشاء؛ فما كان همه أول همه أن يكون كاتباً أو منشئاً، ولكن تطورات الزمن هي ردته من هدف إلى هدف وألزمته أن يكون ما كان. وقد قرأ الرافعي كثيراً وأخذ عن كثير، فمذهبه في الكتابة من صنع نفسه، وهو ثمرة درس طويل وجهاد شاق اختلطت فيه مذاهب بمذاهب وتداول عليه أدباء وأدبا من كتاب العربية الأولين. ولكني أجد من الفائدة هنا أن أشير إلى اثنين من أدباء العربية كان يقرأ لهما الرافعي أكثر ما يقرأ إلى آخر