وقد ولع بعض الكتاب بالزراية على الحق زراية ليست زراية من يريد أن يقلقل المتنطسين في التشيع لجانب منه عن تنطسهم كي يدركوا الجوانب الاخرى، وإنما هي زراية الجاهل الذي يريد أن تعم الفوضى كي يكتسب فيها ومنها من غير حق، كاللص الذي ينتهز فرصة فوضى العراك كي يسرق دراهم الناس. وأمثال هؤلاء الكتاب يجدون رواجاً في أوساط التدهور حيث يصير السخر بالحق وأوجهه خطة عامة لا يستثنى منها فضل أو علم أو عمل أو خلق. فلا غرابة إذا ماتت روح أمة هذا شأنها وإن كانت حية ترزق. والحق عند الجاهل كالدنيا عند الأبله الساذج بقعة حول نفسه أو داره أو قريته. وكلما زاد المرء علماً كبرت الدنيا في نظره حتى يعرف أنها عوالم ونظم شمسية عديدة لم تحص بعد. وكلما ازداد المرء فطنة وثقافة عظم الحق في ذهنه كعظم الدنيا في رأي علماء الجغرافية والفلك. على إن عظم الحق في نظر المفكر قد يعدم الحق كما رأينا، فيقول المرء لا حقيقة في الحياة، بل كل أقوال الناس دعاوى باطلة، وإنما مَثَلُ نظر هذا المفكر إلى الحق مَثَلُ نظر المُطِلِّ في الماء وقد قذف فيه بحجر، فهو ينظر إلى دائرة موقع الحجر في الماء تتسع حتى تفنى. ولكن هناك حالة من حالات الثقافة يطمئن فيها المرء إلى أن تباين أوجه الحق لا ينفي الحق. ألم تر أن الدواء يشمل الأضداد ويشمل حتى السم، فلا ينفي ذلك أنه دواء. وحبذا لو فطن إلى ذلك أصحاب الأوهام الغريبة الذين لا يرون الخير إلا الخير المطلق الذي ليس متصلا بالشر، والحقيقة المطلقة التي لا تتصل بباطل ولا تتجزأ، فإذا وجدوا أن الخير في الحياة ممتزج بالشر قالوا أن لا خير ولا شر؛ وإذا وجدوا أن الحق ممزوج بالباطل قالوا أن لا باطل ولا حق، وإنما هي كلمات واصطلاحات، وإن كل إنسان يعد الحق والخير ما في ناحيته وما فيه نفعه، ولكن لو أن أحد الناس نظر في وجوه الناس ثم في وجوه الحيوانات والطيور ثم قال: إن اختلافها يدل على أن ليس في الكون ما يسمى وجهاً أكان يكون مصيبا في مقاله؟ وكذلك من نظر إلى الدنيا نظرة الراهب الزاهد فيها ونظرة المقبل على مباهجها وأطايبها ونظر إليها نظرة القوي ثم نظرة الضعيف وجد أن أوجه الحق مختلفة، أكان يكون مصيبا لو قال إن اختلاف أوجه الحق ينفي الحق؟ أليس قوله مثل قول من يعرف أن النور إنما يتكون من ألوان عدة، ويقول إن اختلاف مظاهر