أوراقها عندما يمسها الإنسان، وتنكمش أغصانها وتتدانى كأنها تشعر بالخطر المحدق بها فتبتعد عنه، وكأنها تستعد لمغالبة ذاك الذي جاء ينتزع منها الحياة. وأغرب منها قواتل الحشرات التي تنطبق أزهارها على الذباب فتميته وتعصره وتغتذي بعصارته بعد أن تحتال عليه بشتى الحيل لئلا يفلت منها فيفوتها رزقها وتفوتها الحياة.
أما الحشرات فلها أفانين وأعاجيب في التشبث بالحياة والتعلق بها ولا سيما بواسطة أنسالها. والذي يتاح له أن يربي مثلي بعض أنواعها ويتابع سير حياتها بالمجهر أو بالعين أو بالعدسات يذهل من أساليب التلاقح والتسافد بين الذكر والأنثى ومن ضروب الحيل والقسوة التي ربما أدت بأحدهما إلى الهلاك في سبيل حفظ النسل وضمانة بقاء النوع حياً. وما من أحد إلا وله معرفة بخلية النحل ويعسو بها، وقرية النمل وأنابيرها، وخيوط العناكب ومصايدها، دع الحيوانات العليا وما تفتقه قرائحها من ضروب الحيل إما في اتقاء عدو أو تلمس قوت أو إخلاف نسل. والنتيجة في كل ذلك واحدة وهي بقاء أنواع ببقاء الحياة فيه.
لكن ابن آدم الذي سمت مداركه، كيف تلذ له الحياة على ما فيها من شرور وآثام وآلام مبرحة، ولماذا ترتعد فرائصه من الموت، ويقف شعره لشدة فزعه منه؛ وما هذه الشهوة الشديدة التي تدفعه إلى الأنسال، وتلك العاطفة الغريزية التي تجشمه أشد المتاعب وأضناها في تربية الأبناء وإعدادهم للحياة. تخر كل هذه الأسئلة في خاطر الإنسان فلا يحير لها جواباً لأنه لا يفقه شيئاً عن ماهية الحياة ولا عن الغاية نمها. وإذا بأصحاب مذهب العدم أي العدميين ينتصبون قائلين: أما والحياة ليست سوى مجموعة من الآلام التي لا حد لها ولا نهاية، فما علينا إلا أن نقضي عليها بقتل كل حي على هذه الكرة الأرضية الحمقاء. فيضحك العالم من هذا الرأي ويجيب: هبوا الناس قبلوا رأيكم هذا وعملوا به، فماذا يحصل بعد أن تفقد الحياة على هذه الكرة؟ هل تظل الأرض خالية من الأحياء، تدور أن يدرك أحد دورانها، ويتعاقب الليل والنهار دون أن يحص أحد تعاقبهما؟ هذا ما لا يقبله العقل السليم. والراجح أن العلة التي أوجدت الحياة ستعيدها سيرتها الأولى مهما تعددت آراء الصحاب الأديان والمذاهب والفلسفات المختلفة والعقائد المناقضة والعلوم الحياتية المحدودة في تفسير هذه العلة وفي تحديد ماهيتها. وعندئذ تعود الحياة إلى ما كانت عليهن ويعود الأحياء إلى