كل ذلك والشاعر في مرح ونعمة وخيال وافتتان، وكأنه نسي الدنيا التي ولد فيها كما (نسي التاريخ أو أنسى ذكره). . . ولكنه لا يلبث يتلفت بعد ذلك تلفتاً مؤثراً عجيباً، هو دليل الشاعرية الصحيحة التي اشتمل عليها تكوينه العصبي. . . يقول:
قال: من أين؟ وأصغي ورنا ... قلت: من مصر، (غريب) هاهنا
(غريب)، هذه كلمة النفس الشاعرة في مكانها من العاطفة وفي أقصى مدَّها من التأثير، إنه حرف يبكي من الغربة والحنين والذكرى، ولو سقطت هذه الكلمة من الشعر لسقط كل الشعر ولسقط معه رأينا في العوامل التي عملت في شعر (علي طه) بعد رحلته إلى أوربا، لو قال:(من مصر) وسكت، أو أتى بذلك الحشو الذي لا معنى له، والذي يكثر في شعر الضعفاء، لا نسلخ عن الشعر إلى سؤال يتلقاه المرء من فضولي قائم على طريق السابلة، وجواب استخرجه الفضول واللجاجة. . . ثم هي بعد ذلك التفات يخيل لك معه أن الشاعر قد رد فقال: من مصر، ثم انفتل بوجهه إلى مصر، وتلقى دمعة يموَهها بيده ويمسح أثرها بمنديله - في هذا الجو المرح العابث اللاهي - وهو يقول:(غريب هاهنا)
هذا. . . وقد أخذت هذا الموضوع وحده من القطعة لشهرتها الآن وليتدبر من يسمعها فإن فيها من أمثال ذلك كثير، مما هو دليل الشاعرية الناضجة التي لا تخطيء معانيها. ولو أخذت سائر شعره على هذا الأساس الذي كشفنا لك عنه في حديثنا عن الشعر لوقفت على روائعه التي هي روائعه