كان هذا - فيما نرى - وكانت نفسه الشاعرة المتلقّفة - والتي تهجم بعينيها على أَبكار المعاني بنشوة الشباب العِربيد - تتلفت تلفُّت الصائد، تكاثَر الصيد بين يديه، فما يدري ما يأخذ وما يدع، وهو مع ذلك لا يزال يذكر صِغاره وأحبابه وهوى قلبه، ومن يريد أن يصنع لهم حياةً من صَيده؛ فهو يتلفَّت إليه بقلبه حنيناً وذكرى وصبابة. فهذه العواطف الدائبة في تكوين شاعريته، والتي تلونها بألوّانها وتخاريجها، هي التي جنحت به إلى السهولة والرقة والغزل الحُلو بينه وبين معانيه وألفاظه، ومن غير الممكن أن يتقيد الغزل الشعري بقيودٍ تضبطه، وإلا انقلب تكلفاً واستكراهاً وجفوة.
الجندول
وإذا أردت أن تعرف صدق الذي قلنا به من العوامل الجديدة في تلوين هذا الشعر، فخذ هذه الأغنية الجميلة التي ترنَّم بها الشاعر الموسيقي، ثم أعطاها الموسيقيّ البارع (عبد الوهاب) جوّ تغريدها في ألحان هي من شعر الموسيقى. . .
فإن الشاعر حين لعبت به فتن (عروس الإدرياتيك) في كرنفالها المشهور، وَدفِيءَ دَمهُ في أنفاسها الحبيبة المعطَّرة، وفاجأته فتنة من فِتَنِهِ التي عرضت في صبابته. . . أرقَّ فِتنة في أحلى جوّ في سِحر الليل المضيء في أجمل فن الحضارة في أحفل الليالي باللهو والعبث، والضحكات التي تتردد بين أضواء الكهرباء، حتى كأنها أمواجٌ من الضوء تضحك ضحكها - لم يستطيع أن يضبط تلك الأمواج الفرحة المعربدة في إحساسه الشاعر، فبدأ يترنَّم:
أين من عينيَّ هاتيك المجالي ... يا عروس البحر يا حلْم الخيال
أين عُشاقُك ُسُمار الليالي ... أين من واديك يا مهد الجمال
ثم انطلق يصف عاطفته وجو عاطفته وعطر عاطفته، كل ذلك بألفاظٍ غزلةٍ عاشقةٍ، تتنفس أنفاسها من المعاني المرحة، حتى في بعض اللوعة المستكنة وراءَ نفسه، والتي استعلنت في قوله:
(أنا من ضيَّع في الأوهام عمره)
بعد أن قال:
ذهبيُّ الشعر شرقيْ السماتِ ... مرح الأعطاف حُلوُ اللفتات
كلما قلت له: خذ، قال: هات ... يا حبيب الرُّوح، يا أُنس الحياة