الناس ما لم يهده الله بنوره. ولا يجرؤ المسكين أبن آدم على أن يزعم أنه استطاع بفكره أن يحل مشكلاته بالمفاوضة، ويقسم أرزاقه بالعدل، ويثق علاقته بالمودة، ويضع لدنياه أنظمة ثابتة تكفل له السعادة الخالصة والسلام الدائم
وإن الأدب المحرك لهوى النفوس لم يستطع الإنسان الأثِر أن يسمو به على الأهواء النفسية والأغراض الحزبية والأطماع القومية؛ فظل في كل أمة خاضعاً لمنهاج المدرسة وسياسة الدولة وطبيعة الشعب لا يتجاوز حدود المكان ولا فصول الزمن، فكان عاملاً من أشد عوامل العصبية والوحشية والفرقة
وإن العلم الذي ناط به العقل كشف أسرار الكون لفهم الحياة، وتسخير قوى الطبيعة لخير الناس، جافاه الضمير فاستبد به الشر وراح يستعديه على نتائج الخير وآثار الصلاح، فرماها بآلات البوار والدمار من طائر يقذف الشهب وسائر يطلق السموم وزاحف يرسل اللهب!
وإن المدنية التي عمرت بها الأرض، وتمت عليها الأنفس، وزخر بها النعيم، وتبجح بازدهارها الإنسان، قد سطت عليها المادة القاسية فسلبتها الروح وحرمتها القلب، فوقعت الجفوة بينها وبين الدين، وانقطع السبب بينها وبين الحب؛ فتشتت الآلاف، وتباعدت القُرْبى، وتشعبت الحاجات، وتنافست المطامع، وتكاشفت الأحقاد، واضطرب الناس في سبل الكدح، وألهبتهم حوافز الهم، حتى عجزوا بخلقتهم وطبيعتهم عن مسايرة الحضارة فسعوا بالطائرات، وعملوا بالآلات، ونظروا بالتلسكوب وسمعوا بالمكرفون، وضاقت عليهم الأرض برحبها فضربوا في الآفاق، واختصموا على ديار المستضعفين فحكموا بينهم السلاح فكانت هذه المدنية المادية أشبه بسعير الآخرة تنضج الجلود ولا تزهق الأنفس ليستمر الاضطراب ويتجدد العذاب ويدوم للطبيعة الخداعة هذا الثوب الأنيق الموشى بفضل هذا الإنسان الأحمق الذي يعمل ولا يعرف لماذا، ويسرع ولا يدري إلى أين!
هذا الفكر العاجز، وهذا الأدب القاصر، وهذا العلم المجرم، وهذه المدنية الفاجرة، لا تستحق الاحتفاظ بها ولا الذياد عنها يا زملاءنا الأعزة. لقد أشتد بأسها وعظم سلطانها في ألمانيا (الراقية) فولدت الهتلرية بوحشيتها وعصبيتها وبلاياها؛ وإن من الخير للإنسانية أن تذهب هذه العقلية مع الهتلرية إلى غير رجعة