قبل أن تستقر معاني تلك النظرة في نفسك. فأن كل معنى من معانيها رمح يستقر في قلبك فينزفه، وفأس تنزل على عنقك فتفصله عن جسدك.
قد يجود عليك حرج الموقف بكلمة، ولكن الغالب أن تغص فلا تتكلم. فإما أن تبقى ساكنا والعرق يتصبب من جبينك، وأما أن تتحفز للقيام فراراَ من سوء ما أنت فيه. فإذا ارتج عليك وثبت في مكانك، انفتحت شفتاه العريضتان عن ابتسامة تترجم لك عن قوله: أكره البشر يا أبن (آدم)، فإليك بغضي) أما إذا ساعدك الحظ وحملتك رجلاك فقمت، فإن يدك معصورة في يده، وذراعك مهتزة كأنها القصبة المنخورة، ليشعرك أنه انتصر وآذى الإنسانية وانتقم منها في ذاتك، وفتك بأبناء (آدم) ومثل بهم في شخصك، ولكنه انتصار أشبه بانتصار الخراب على الفقر، كما يقول سير ولتر سكوت. غير أنه هنا خراب النفس، يستقوى ويستلئم، منهزاَ له فرصاَ من نكد الدنيا وسألته: ثم ماذا يا شيخ محمود؟ قال: لاشيء، إلا أن هذا الإنسان لدنو مكانته في الأولى ورفعته في الثانية، أصيب بمرضين هما ما ذكرت: إنسان نشأ في الحضيض، درج على التراب أول ما درج، ولبس الأسمال أول ما لبس، وعاشر السفهاء والذؤبان أول ما عاشر، ونام عنه القدر، فلف ودار، ثم تسلق حائط المجد، فأصبح شيئاَ ما في دنيا مجهولة، أشبه شيء بالبقعة الخراب في المصور الجغرافي، فحقد على البشر لأنه نشا من أدناهم مكاناَ وأرذلهم موضعا، ثم أراد أن يعمى على سوء منشئه، فتكلف أشياء ليست من طبعه، فطغى على الناس كبراَ والناس - يا أخي - لا يعاملون أمثاله بالحكمة النبوية الكريمة:(التكبر على أهلا الكبر صدقة)
واطرق الشيخ محمود هنيهة، ثم نظر إلي بعينيه الواسعتين وسأل: أليس الذي وضع مبدأ الأرستقراطية هو أرسطوقراطيس الرومي؟ قلت: كلا إنك واهم، وليس من الروم من هذا اسمه، وإنما هو مبدأ اعتنقه بعض مقاديم اللصوص في الأزمان القديمة، وكان منهم قتلة وقطاع طرق وقراصنة، ثم قلدهم فيه لصوص آخرون أشد منهم غباء، وأقل إقداماَ، فانحدر إلينا بعض المقلدين، ولكنهم بيننا كالأحياء البائدة التي حفظت الطبيعة هياكلها في طبقات الأرض، وليس لنا منها إلا الصورة؛ أما الحقيقة فقد انحدرت في جوف الزمان
فأطرق الشيخ محمود إطراقه ثانية يتأمل كلامي، وحبات مسبحته تتساقط، فتحدث ذلك النقر المنتظم الذي يمثل تتابع فكراته وتأملاته، ثم ما لبث أن فاضت عيناه مرسلتين دموعا