الشعر العربي كله، ولا نكاد نعثر إلا على أبيات ومقطعات يحس الشعراء فيها هذا الإحساس على تفاوت في قيمتها الفنية. نذكر منها على سبيل المثال قول مسلم ابن الوليد:
تمشي الرياح به حسرى مولهة ... حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد
وأبيات البحتري في وصف الربيع التي مطلعها:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقول ابن خفاجة الأندلسي في وصف جبل:
وأرعن طماح الذؤابة شامخ ... يطاول أعنان السماء بغارب
وقور على ظهر الفلاة كأنه ... طوال الليالي ناظر في العواقب
أصخت إليه وهو أخرس صامت ... فحدثني ليل السري بالعجائب
وفيما عدا ابن الرومي وتلك الأبيات والمقطعات التي ضربنا لها هذه الأمثلة تكاد الطبيعة في الشعر العربي (تستعمل من الظاهر!)؛ فهي منظر جامدة للوصف الحسي والتشبيه بالمحسوسات، تعلو سلم الفن، حتى تكون كأبيات المتنبي في شعب بوان، وتسفل حتى تصل إلى تشبيهات ابن المعتز جميعاً!
وظاهرة ثالثة: هي أن الطبيعة في الشعر العربي قد تحيا وتدب ويحس الشاعر بما يضطرب فيها من حياة، ويلحظ خلجاتها ويحصي نبضاتها، كما يصنع ابن الرومي في بدائعه. ولكنه هو لا يندمج في هذه الطبيعة، ولا يحس أنه شخص من شخوصها وفرد من أبنائها، وأن حركته من حركاتها، ونبضه من نبضاتها، وأنه منها وإليها، وأحاسيسه موصولة بأحاسيسها
فأبن الرومي حين يقول:
لم يبق للأرض من سر تكاتمه ... إلا وقد أظهرته بعد إخفاء
أبدت طرائف وشى من أزاهرها ... حمراً وصفراً وكل نبت غبراء
أو حين يقول:
برياض تخايل الأرض فيها ... خيلاء الفتاة بالأبراد
منظر معجب تحية أنف ... ريحه ريح طيب الأولاد
إنما يبلغ في هذين المثالين وفي غيرهما أبدع ما يبلغه الشعر العربي من الإحساس بحياة